المقالات

في وداع وجيه الطائف إسماعيل قاضي

من شقراء إلى الطائف، كان الطريق هذه المرة مختلفًا. لم تكن رحلة عمل، ولا زيارة عابرة، بل سفر لأداء واجب العزاء في رجلٍ لم يكن حضوره مقتصرًا على الطائف وحدها، بل امتد أثره إلى كل من عرف معنى الكرم والإحسان. قصدت الطائف مودّعًا الشيخ إسماعيل قاضي، لا بوصفه وجيهًا اجتماعيًا فحسب، بل بوصفه قيمة إنسانية تركت أثرها في الناس والبيوت والمجالس
برحيل الشيخ إسماعيل قاضي، لا تفقد الطائف رجلاً من رجالها فحسب، بل تفقد معنىً كان حاضرًا في حياتها اليومية. تفقد بيتًا ظل مفتوحًا، ويدًا امتدت بصمت، ووجهًا بشوشًا كان يستقبل الناس قبل أن يسألهم عن أسمائهم أو حاجاتهم.كان إسماعيل قاضي واحدًا من أولئك الرجال الذين لا تُقاس قيمتهم بما يملكون، بل بما يتركون. رجل أعمال نعم، ووجيه اجتماعي بلا شك، لكن أثره الحقيقي كان في قدرته على تحويل النجاح الشخصي إلى منفعة عامة، والعطاء إلى أسلوب حياة. عرفه الناس بإحسانه الهادئ. لم يكن الإحسان عنده خبرًا يُتداول، بل فعلًا يُمارَس. أسر محتاجة وُفّرت لها أساسيات العيش، بيوت دُفعت إيجاراتها في صمت، وسجناء معسرون خرجوا إلى الحرية بعد أن سُدّدت ديونهم. كان يؤمن، كما دلّت أفعاله، أن الكرم الحقيقي هو الذي يعيد للإنسان كرامته، لا الذي يذكّره بحاجته.

وفي مدينة كـالطائف، مدينة الثقافة والأدب والشعر، ومنطقة التماس الجغرافي والإنساني، حيث ينشط القلق الخلّاق ويزدهر الحراك الثقافي، برزت ديوانية إسماعيل قاضي علامة ثابتة وسط هذا الزخم. الطائف تعرف الديوانيات والمنتديات الخاصة؛ بعضها موسمي، وبعضها مرتبط بحدث أو ظرف، ويأتي الصيف ليكون أكثرها ازدحامًا وثقلًا من حيث العدد والجوهر. لكن ديوانيته لم تكن عابرة ولا موسمية، بل ثابتة ومستمرة، مجلسًا أسبوعيًا منتظمًا، ثلوثية امتدت عبر السنين، ورثها عن أبيه عن جده، تبدأ من صلاة المغرب وتمتد إلى ما قبل منتصف الليل، وكأن الزمن نفسه كان يجد فيه فسحة للجلوس.ذلك المجلس لم يكن مكان ضيافة فحسب، بل فضاءً اجتماعيًا وثقافيًا. يجتمع فيه أصحاب المعالي، والدعاة، والمثقفون، ووجهاء الطائف، في مشهد يعكس فكرة بسيطة وعميقة في آن واحد: أن البيت إذا اتسع للناس، اتسعت به المدينة كلها.
وكانت التفاصيل الصغيرة هي التي تكشف جوهر الرجل. من عرفه، لا ينسى تلك اللحظة التي ينهض فيها من مجلسه بمجرد أن يرى ضيفًا مقبلاً، ليكون أول من يستقبله ويصافحه. لم تكن حركة عابرة، بل معنى متجسّد: الكرم لا يبدأ من المائدة، بل من الوقوف احترامًا للإنسان، من ابتسامة تسبق الكلام، ومن شعور يمنح الداخل طمأنينة أنه في بيته قبل أن يجلس. في تلك اللحظة، كان التراث العربي في أصفى صوره، حيًا لا يُدرَّس، بل يُعاش.
من الذاكرة اذكر انه حين خضع لعملية قسطرة في مستشفى الهدا، زرناه يوم ثلاثاء، فكان همه الأول أن يطمئننا أن المجلس قائم، وأن أبناءه موجودون، وأن البيت لا يُغلق. كأنما كان يقول، دون تصريح: الجسد يمرض، لكن القيم لا تتوقف.برحيله، يرحل رجل، لكن لا يرحل الأثر. تبقى ديوانيته شاهدًا، وتبقى سيرته جزءًا من ذاكرة الطائف، ويبقى اسمه مرتبطًا بفلسفة عربية أصيلة ترى في الكرم مسؤولية، وفي الإحسان رسالة، وفي البيت المفتوح معنى للحياة المشتركة.

رحم الله الوجيه إسماعيل قاضي.رحل الرجل، وبقي ديوانه مفتوحًا في الذاكرة. وبقي أثره حيًّا في البيوت التي أعانها، وفي القلوب التي عرفته.وإذ نعزّي أبناءه في فقده، فإن العزاء يمتد إليهم بوصفهم امتدادًا لمسيرة أسرة عريقة، أسرة لم يكن عطاؤها طارئًا ولا منقطعًا، بل حضورًا متصلاً في ميادين العلم والدين وخدمة الوطن. فبهم يستمر الأثر، وبقيمهم تبقى الأبواب مفتوحة، كما أرادها والدهم وكما عُرفت هذه الأسرة عبر السنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى