يكشف تاريخ اليمن أن الانقسام لم يكن يومًا مسارًا طبيعيًا لنشوء الكيانات، بل نتاج تدخلات سياسية ارتبطت بالموقع الجغرافي أكثر من ارتباطها بالهوية. فمنذ العصور القديمة ظلّ اليمن وحدةً حضاريةً متصلة، تتبدل مراكز القوة داخلها دون أن تنكسر في معناها العام، ولم يعرف التفكيك إلا حين دخل العامل الخارجي لاعبًا مباشرًا في إعادة تشكيل الجغرافيا، عبر إعادة توزيع النفوذ وهندسة التوازنات بما يخدم مصالحه لا منطق المجتمع.
وفي جنوب اليمن، لم تُنتج التعددية المحلية كيانًا منفصلًا، بل جرى توظيفها سياسيًا خلال الحقبة الاستعمارية، حين أُعيد تعريف المكان عبر تسميات وحدود وسلطات مصطنعة، صُمِّمت لخدمة المصالح البحرية والعسكرية لا للتعبير عن إرادة المجتمع. وقد استند هذا النهج إلى إدارة الاختلاف بدل حسمه، وتكثير المراكز المحلية المتنافسة بدل بناء إطار جامع، بما يُبقي القرار موزعًا والسلطة قابلة للتوجيه. وحين غاب هذا العامل الخارجي، انهارت تلك البنى سريعًا لافتقارها إلى الجذر التاريخي والشرعية الاجتماعية. وقد مثّل هذا المسار نموذجًا لما انتهجته المملكة المتحدة (بريطانيا ) في عدن ومحيطها، حيث أُدير التنوع أداةَ ضبط لا مشروعَ دولة.
واليوم، يُعاد طرح الانفصال بوصفه حلًا لأزمة مركبة، بينما تُظهر القراءة التاريخية أن التجزئة لم تعالج الخلل السياسي، بل عمّقته. فالدول التي تُبنى على فصل الجغرافيا دون إصلاح العلاقة بين السلطة والمجتمع تتحول إلى كيانات هشّة، مفتوحة للتدخل والوصاية، وتظل عاجزة عن إنتاج الاستقرار.
وفي هذا السياق، يبرز الموقف الواضح لـ المملكة العربية السعودية الرافض لسيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على محافظة حضرموت، وتأكيدها على ضرورة خروج القوات التابعة له من محافظتي حضرموت والمهرة، وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، انطلاقًا من حرصها على وحدة اليمن وأمنه، ورفضها لأي محاولات لفرض الأمر الواقع بالقوة. ولا ينطوي هذا الموقف على إساءة لأي دولة شقيقة، بل يحمّل المجلس الانتقالي مسؤولية ما وقع من تجاوزات وتعديات تهدد السلم الأهلي.
وفي المقابل، تؤكد المملكة جهودها الرامية إلى احتواء الأزمة وإنهاء التصعيد في حضرموت عبر الحوار، وتجنب أي مسار عسكري قد يؤدي إلى إراقة دماء المزيد من اليمنيين أو تعقيد المشهد.
ومع ذلك، فإن التأكيد على وحدة اليمن لا يعني إنكار عدالة القضية الجنوبية. فهي قضية حقيقية ومتجذرة لا يمكن تجاوزها في أي تسوية سياسية عادلة، لكنها قضية الشعب الجنوبي بكل مكوناته، ولا يجوز اختزالها في شخص أو إطار تنظيمي واحد. فاختزال التمثيل يحوّل القضية من مسألة حقوقية جامعة إلى أداة صراع ضيّق.
من هنا، لا يبدو الانفصال مشروعًا واقعيًا بقدر ما يبدو وهمًا سياسيًا يُعاد تسويقه بلغة جديدة. فالتاريخ اليمني يعلّم أن ما يُفرض خارج منطق الجغرافيا والهوية والشراكة الوطنية لا يصنع دولة، بل يؤجل الأزمة ويضاعف كلفتها.



