حين يتحول القمع إلى دندنة… ثم إلى بوح لا يمكن إسكاته.
منذ صباي، كنت أهرب من الشعر. لم أرغب الارتباط به، وقررت مبكراً أن أكون متذوقاً يقف على ضفاف الإبداع دون أن يغوص في أعماقه.
كان تأنيب الضمير يلازمني كلما هممت بنظم بيت شعري؛ إذ تحوّل الوقت الذي كنت أقضيه صغيراً في حفظ القرآن الكريم إلى تمتمة شعرية تسترق أنفاسي. شعرت أن في ذلك خيانة لصفاء تلك الساعات، فقررت الانصراف عن كتابة الشعر وأن أظل متذوقاً له فقط.
لكن رغم كل ذلك، كان هناك صوت آخر يسكنني.
موهبة لم ترد أن تظل في الظل. شاعر مكبوت داخل أعماقي، يلحّ عليّ في كل منتدى وملتقى أدبي، يهمس، يتمرد، يحاول أن يرى النور.
كنت أقمعه، أغلق الأبواب في وجهه، وأُذكر نفسي أنني اخترت أن أبقى على الضفاف لا الغوص في لجّة الشعر.
مرت الأعوام، وأنا أصدّه، وأغض الطرف عن نداءاته.
حتى جاءت جدة.
هذه المدينة الساحرة، بشواطئها وبحرها وأفقها المفتوح، فعلت ما لم تفعله السنوات. صارت ملاذاً آمناً لذلك الشاعر المكبوت. لم أعد أستطيع منعه من الدندنة في صدري. كنت أكتفي بمراقبته، أرهقني بإلحاحه، ينتزع مشاعري، ويحولها إلى أبيات قصيرة.
في جدة، حيث يتجدد الإلهام، التقى الشاعر الذي يسكنني بملهم يعشق الشعر ويتذوق مفرداته بوعي رفيع. أما أنا، فكنت مجرد مساعد له، أحمل كلماته، وأيسر له الطريق إلى البوح.
حين أطلقت لبوحه العنان، انتفض الشاعر المكبوت الذي يسكنني، كأنه كان ينتظر تلك اللحظة منذ دهر. اقترب مني وهمس بصوت متهدج:
“هل حان الوقت؟ هل ستتركني أكون حراً أخيراً؟”
رددت وقلت:
“سأطلق سراحك، لكن بوحك رهين رضا القراء. إن اقتنعوا بكلماتك، فلتظل حراً تغني كما تشاء. أما إن خذلوك، فسوف تعود إلى السجن والكبت من جديد.”
ابتسم، ونظر إلى الأفق يتأمل البدر في السماء، ثم خطّ بصوته المشتاق على فن الكسرة
الزين لايق على الحلوين
الناس تشهد على زينك
الله يحفظك قول آمين
سحرني والله هدب عينك
كانت كلماته بسيطة، لكنها نابعة من أعماق صمت طويل، كأنها شهقة شاعر عائد إلى الحياة.
بين أمواج البحر وذلك الملهم الذي أحبه الشاعر الذي يسكنني، استسلم الشاعر المكبوت لصوته أخيراً.
أنا لم أعد أقمعه، بل صرت أراقبه فقط، وهو يكتب نفسه بنفسه، يغني حيث يشاء في حضن جدة.
ختامًا
أدركت أن بعض الأصوات لا تُكبت، بل ترافقنا حتى تجد متسعاً من الضوء والبوح.
استاذ عبدالله الحياة ليست كلها جدّ وكد ولكن ساعة و ساعة ولا بأس ببعض الترويح عن الذات والتنفيس عن ما تكبت من مشاعر. اطلق مارد الشعر من قمقمه ودعنا نستمتع معك بسحر البيان فما عهدناك إلا مبدع في كل الجوانب التي طرقتها ….
مدري على ايش هم ناوين
على الوصل أو على بعدك
اهل البحر طبعهم صعبين
وإن كان حبوك يا سعدك
وإنّه لتطيب لي تهنئتك القلبية وأن أشدَّ على يديك بإفساح المجال لذلك الشاعر الساكن أعماقك أن يخرج إلى الفضاء الرّحب،وأن ينال حرّيته المشروعة تحت نظرك.
أطلتَ حبسَه ياصديقي «وأغلقت الأبواب في وجهه »حيناً من الدهر، ومع ذلك كنت كريماً جداً معه مهذّباً في قمعه والقسوة عليه على طول الخط.
«ولقد يقسو على من يرحم » كما قال الشاعر الحكيم .
وأُشبّه موقفك معه بموقف الوالد الحاني مع ابنه الشاب الطائش المندفع في تصرّفاته غالباً،إذ لابدّ من توجيهه توجيهاً صادقاً حتى تستقيم له الأمور، ولابدّ أثناء ذلك من الصبر على مناكفاته واحتمال حماقاته،والتغاضي عن بعض زلّاته ..الخ
و«بين أمواج البحر»وفي « حُضن جدة»كما ذكر سعادتك ولد الإلهام الصافي النَّقي ،ومعنى ذلك أنَّ موحيات الجمال ودواعي الحسن
في هذه المدينة الآسرة الساحرة لن ينقطع مددُها عن منح قريحته المتّقدة المتأهبة أن تفيض علينا مستقبلاً بالبدائع والروائع الشعرية الأنيقة في القوالب الفنية التي تنجذب إليها وتتماهى معها.
وما أجمل هذا التحول المفاجيء والإجراءات التي واجهته بها : « من قمع إلى دندنة… ثم إلى بوح لا يمكن إسكاته»
مررتُ على هذه المقالة الرائقة التي بدت لي أشبه ماتكون بدرّةٍ مكنونةٍ فائقة الحسن والجمال فاستمتعتُ
بمطالعتها إلى أبعد الحدود،وأدهشني ما اشتملتْ عليه من رؤى إنسانية أعادت إلى الذاكرة نكهة: «أدب المذكّرات الشخصية» النادر في نتاج أدباء هذه المرحلة .
لاجفّ قلمك الرشيق ياصديقي المبدع
وتقبل تحياتي🌹
جدة والبحر يشعلان فتيل السحر ليضيء سراج الشعر
وهنيئاً استاذي الكربم لمن استطاع ان يتجاوز مرحلة الكبت ويغير كلمة مكبوت الى مكتوب وينثر حروفه على شاطيء المشاعر كما فعلت انت واطربتنا بهذا المقال الذي فيه من الصور الشاعرية الرائعة مايستوجب رصف السطور وتسجيل الحضور ودمت مبدعاً
أخي عبد الله، شعرك جميل والأجمل ان تطلق العنان له وتفك له القيود لينطلق بحرية.
أهنئكم بكلماتك الجميلة والزين يستاهل أكثر.
كما أهنئ صاحب الحظ ألذي كان سببا في إطلاق قريحتكم الشعرية.
تقبل مروري.
د.رجب بريسالي