المقالات

المدارس الوقفية النسائية ودورها في تكوين العالمات المسلمات: المدرسة الشامية والظاهرية نموذجًا

الملخص

عرفت الحضارة الإسلامية منذ قرون مؤسسات تعليمية نسائية متقدمة، تمثّلت في المدارس الوقفية النسائية التي أُنشئت خصيصًا لتعليم النساء علوم الدين واللغة والحديث. ومن أبرزها: المدرسة الشامية والمدرسة الظاهرية بدمشق.
تتناول هذه الدراسة النشأة التاريخية لهذه المؤسسات، وأسبابها، وأبرز القائمين عليها، وأنظمة تمويلها، والنساء العالمات اللاتي تخرجن فيها، مع تحليل لأثرها الباقي في الواقع العلمي والاجتماعي، خاصة في القرن الثامن الهجري، حيث بلغ التعليم النسائي ذروته المؤسسية. كما يدعو المقال إلى إحياء هذه النماذج في السياق المعاصر، خصوصًا في الغرب، عبر مبادرات وقفية جديدة بقيادة النساء العالمات.

المقدمة

كان للمرأة المسلمة في تاريخ الحضارة الإسلامية مكانة علمية بارزة، خاصة في علوم القرآن والحديث واللغة. وتجلّى هذا الحضور في ظهور مدارس وقفية نسائية كانت مخصصة لتعليم النساء على أيدي العالمات، وتخريج فقيهات ومحدثات بلغن منزلة الإسناد العالي.
تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على هذا الدور الريادي الذي لعبته المدارس الوقفية، انطلاقًا من نماذج مثل المدرسة الشامية (الرواحية) والمدرسة الظاهرية، وبيان كيف ساهمت هذه المدارس في تكوين النخبة العلمية النسائية في الشام والحجاز، وتأثيرها الممتد حتى العصر الحديث، والدعوة إلى استعادتها في واقعنا المعاصر.

أولًا: نشأة المدارس الوقفية النسائية

ترجع بدايات ظهور المدارس الوقفية النسائية إلى القرن السادس الهجري، حيث ظهرت الحاجة إلى مؤسسات تعليمية مستقلة للنساء، نتيجة:
1. ازدياد عدد النساء الراغبات في التخصص في علوم الشريعة واللغة.
2. وجود عالمات كبيرات بدأن التدريس في البيوت والزوايا.
3. دعم المجتمع الإسلامي لمكانة العلم، وتقديره للعلماء والعالمات.
4. تشجيع السلاطين والعائلات الثرية على إنشاء الأوقاف النسائية.

وكان من أولى النماذج الناجحة في هذا السياق المدرسة الشامية (الرواحية)، التي أنشأها أحد أمراء بني زنكي في دمشق، ثم تطور النموذج مع المدرسة الظاهرية في القرن السابع الهجري، في عهد الظاهر بيبرس.

ثانيًا: القائمون عليها وهيكلة الإدارة

قامت المدارس الوقفية النسائية على أنظمة إدارية منظمة، تراعي الجوانب التعليمية والشرعية والاجتماعية. ومن أبرز معالم إدارتها:
• الواقف المؤسس: وهو غالبًا من الأمراء أو النساء الثريات.
• ناظرة المدرسة: وهي امرأة فقيهة تتولى الإشراف التربوي والعلمي.
• المدرّسات: عالمات حافظات للحديث والقرآن، مؤهلات بالإجازات.
• العالم المساعد: في بعض المدارس، كان هناك شيخ يتعاون مع المدرّسات في التدريس دون خلوة.

ثالثًا: التمويل والوقف

تموّلت هذه المدارس من أوقاف مستقلة أُسست خصيصًا لصالح النساء المتعلمات، وتتضمن:
• ريـع العقارات، والحمامات العامة، والأسواق.
• نصوص وقفية دقيقة تؤكد على استمرار الصرف على المدرّسات والطالبات.
• اشتراط الصرف على الكتب، والماء، والسكن، والطعام، في بعض الحالات.

وكانت هذه الأوقاف تعبّر عن الوعي الحضاري بقيمة تعليم المرأة، واستقلاليتها العلمية.

رابعًا: أبرز العالمات المتخرجات

أنتجت هذه المدارس جيلًا من العالمات والمحدثات، نذكر منهن:
• عائشة بنت عبد الهادي: شيخة الحديث في الحرمين.
• فاطمة بنت محمد السفارية: راوية للكتب الستة بالإسناد العالي.
• ست الوزراء بنت عمر: محدثة مشهورة في القرن الثامن الهجري.
• زينب بنت الكمال: من أبرز المحدثات في عصرها، تلقى عنها كبار العلماء.

وقد بلغ عدد النساء العالمات المجيزات في دمشق وحدها، في بعض القرون، أكثر من مئة محدثة.

خامسًا: أثرها الباقي في التعليم والنهضة النسائية

رغم تقلب الأحوال السياسية، فإن هذه المدارس أدت إلى:
• ترسيخ دور المرأة العالمة كمصدر للعلم والإجازة والفتوى.
• حفظ الإسناد الحديثي عبر روايات النساء.
• تمكين المرأة من الوعي الديني واللغوي.
• تكوين النخبة النسائية في الحجاز ومصر وبلاد الشام.

وقد امتد تأثير هذه المدارس حتى العصر الحديث، حيث أصبحت نماذج يحتذى بها في برامج تعليم الفتيات في العالم الإسلامي.

الخاتمة: دعوة لإحياء الأوقاف النسائية العلمية

لقد جسّدت المدارس الوقفية النسائية مثل “المدرسة الشامية” و”المدرسة الظاهرية” نموذجًا حضاريًا راقيًا، جمع بين تمكين المرأة، وإعلاء شأن العلم، وترسيخ استقلاليته عن السياسة، عبر الوقف.
واليوم، ونحن نعيش تحديات فكرية وتعليمية واجتماعية جسيمة، لا سيما في الغرب، فإن إحياء مثل هذه الأوقاف المتخصصة أصبح ضرورة.
نحن بحاجة إلى عالمات ربانيات يقمن بدور الإرشاد والتوجيه والتعليم والريادة في مجتمعات المسلمين، وخصوصًا في البيئات غير الإسلامية، حيث الحاجة ماسة إلى خطاب نسائي شرعي قوي، يمثل الدين والخلق والمعرفة.

وعليه، فإننا نناشد التجار وأرباب المال والمؤسسات الخيرية أن يعيدوا إحياء هذه السنة المباركة، بإنشاء مدارس وقفية نسائية تعليمية متخصصة، تحيي تقاليد العالمات المحدثات والمربيات، على نهج الحضارة الإسلامية الأصيلة. فبالعلم الراسخ، تبنى الأمم، وتُصان الهويات.

الهوامش والمراجع
1. ابن طولون، القلائد الجوهرية في تاريخ المدرسة الظاهرية.
2. النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس.
3. عائشة عبد الرحمن، المرأة في الإسلام.
5. Jonathan Berkey, Transmission of Knowledge in Medieval Cairo.
5. Asma Sayeed, Women and the Transmission of Religious Knowledge in Islam, Cambridge, 2013.
6. سجلات المحكمة الشرعية بدمشق – أرشيف الوقف العثماني.
7مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، عدد خاص حول التعليم النسائي (1952م).
8أحمد شلبي، تاريخ التربية الإسلامية، دار النهضة، القاهرة، ط5.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى