الثقافية

من الفاكهة والخبز إلى الموت واللذة: قراءة في ميتافيزيقا الشاعر محمد عابس

عناوين دواوين محمد عابس ليست مجرّد لافتات جمالية، بل هي مفاتيح لرحلة وجودية كاملة. في «فاكهة المرأة وخبز الرجل» يضع الشاعر الحياة في صورتها الأولى: غذاء الجسد والروح معًا. الفاكهة، برمزها للحلاوة والفتنة والحب، هي المرأة؛ والخبز، برمزيته للضرورات اليومية والقوت، هو الرجل. وبين الفاكهة والخبز تتشكل مائدة الوجود، حيث لا حياة بلا المرأة التي تمنح المعنى، ولا استمرار بلا الرجل الذي يمنح البقاء.

لكن هذه المائدة لم تُنسِ الشاعر حقيقة الموت. ففي «ثلاثية الموت واللذة»، يواجه عابس تناقض الإنسان الأزلي: شغفه باللذة، ووعيه الحاد بأن الموت ينتظره في نهاية الطريق. هكذا ينكشف تلذّذه بصنوف الطعام والحياة لم يكن غفلة عن المصير، بل إصرارًا على التهام لحظات الفرح قبل أن تبتلعه العدم. فالإنسان، في رؤيته، يولد من حضن الأم، يمر بمحطة الأب، ثم يمضي نحو محطته الأخيرة: الموت.

إن قراءة مسيرة محمد عابس تكشف أنه لم ينفصل يومًا عن المرأة ولا ابتعد عن الرجل، لأنهما معًا يعمران الحياة ويشيدان مسرحها الإنساني. فحضور المرأة والرجل في نصوصه ليس حضورًا بيولوجيًا أو اجتماعيًا فحسب، بل هو حضور كوني يعيد صياغة المعنى ويؤكد أن الحياة، مهما اتسعت، تنغلق في النهاية على سؤال واحد: كيف نعيش ونحن نعرف أننا سنموت؟

محمد عابس، المولود في الرياض، ظلّ عبر عقود يمارس دورًا مزدوجًا: مسؤول ثقافي وإعلامي، وشاعر يكتب الأشكال الشعرية المختلفة. في دواوينه، كما في حياته، يلتقي الاحتراف الإبداعي بالعمق الوجودي، حتى باتت كتبه – من «فاكهة المرأة وخبز الرجل» و«ثلاثية الموت واللذة» إلى «أكثر من ذاكرة» – بمثابة سيرة فلسفية مكتوبة بالشعر.

في سياق الشعر السعودي الحديث، يمثل محمد عابس صوتًا متفردًا استطاع أن يزاوج بين الحس الوجودي واللغة اليومية، وبين الرمزية الفلسفية والمشهد الواقعي. ففي زمنٍ انقسم فيه الشعراء بين الحداثة الصارمة والحنين إلى التراث، شقّ عابس طريقًا ثالثًا يجمع العمق الفلسفي مع قابلية النص للتلقي الشعبي. عناوينه الجريئة تكسر رتابة المألوف، لكنها ليست استفزازًا شكليًا، بل اختزال مكثف لرؤيته الكونية.

إن خصوصيته تكمن في أنه لا يكتب عن المرأة والرجل بوصفهما شخصيات عابرة في نص شعري، بل كركيزتين لوجود الإنسان. كما أن إدخاله للموت واللذة في معادلة المعنى يضعه ضمن تيار شعري عربي يلتقط الأسئلة الكبرى للحياة، لكنه يلبسها حُلّة محلية نابضة بروح المكان والزمان. بذلك، يظل محمد عابس شاهدًا شعريًا على التحولات الثقافية والفكرية في المملكة، وفاعلًا في إعادة تعريف الشعر بوصفه أداة تفكير بقدر ما هو أداة إحساس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى