لم يكن خطاب وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة مجرد تسجيل لمواقف تقليدية أو تكرار لعبارات دبلوماسية مألوفة، بل عكس نقلة نوعية في تموضع المملكة على الساحة الدولية. فقد حمل الخطاب رؤية متكاملة لدور السعودية، تتقاطع فيها الأبعاد الإنسانية والسياسية والاستراتيجية، لتقدم صورة دولة أصبحت أكثر انخراطاً في صياغة الحلول بدل الاكتفاء بمتابعة الأزمات.
أبرز ما ميز الخطاب هو التأكيد على أن السعودية لم تعد لاعباً إقليمياً يقتصر دوره على جغرافيا الشرق الأوسط، بل تحوّلت إلى فاعل دولي قادر على إعادة تعريف معادلات الأمن والسلم العالميين. فعندما استحضر الوزير الأرقام المرتبطة بالمساعدات الإنسانية، والتي تجاوزت 141 مليار دولار وشملت 174 بلداً، لم يكن الهدف الإشارة إلى حجم العطاء بقدر ما كان توظيف هذه الأرقام لتكريس ما يمكن تسميته بـ”الشرعية الأخلاقية” للسعودية، وهي شرعية تمنحها قوة تفاوضية تضاهي حضورها السياسي والاقتصادي.
القضية الفلسطينية جاءت في صدارة الاهتمامات، لكن بزاوية مغايرة: ليس فقط كتعبير عن التزام تاريخي، وإنما كاختبار لمصداقية النظام الدولي برمته. فالرياض لم تكتفِ ببيانات الشجب، بل انتقلت إلى مرحلة الفعل، من خلال قيادة مبادرات عملية مثل التحالف الدولي مع النرويج والاتحاد الأوروبي لإحياء حل الدولتين، والمشاركة مع فرنسا في رئاسة مؤتمر دولي للتسوية السلمية. هذا التحرك يعكس انتقال السعودية من موقع “المدافع عن قضية” إلى موقع “المهندس للحلول”، وهو ما يمنحها وزناً مضاعفاً في معادلة إدارة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
في الأزمات الإقليمية الأخرى، بدا الخطاب أكثر وضوحاً في إبراز فلسفة السعودية القائمة على منع الانهيار وتكريس الاستقرار. ففي اليمن، دعم المملكة للعملية السياسية لا ينفصل عن حرصها على إنهاء المعاناة الإنسانية. وفي السودان، استضافة جدة للحوار ليست مجرد مبادرة سياسية، بل خطوة لبناء أرضية مشتركة تمنع اتساع دائرة الحرب الأهلية. أما في ليبيا ولبنان وسوريا، فإن الموقف السعودي يعكس وعياً بأن تفكك الدول يعني تصدير الفوضى للعالم، وهو ما يجعل المملكة تدفع باتجاه حلول محلية تضمن وحدة القرار والسيادة الوطنية، بدل أن تبقى تلك الملفات رهينة التدخلات الخارجية.
لكن ما يميز الدور السعودي اليوم هو اتساعه إلى ما هو أبعد من القضايا الإقليمية. فالحديث عن أمن الملاحة البحرية في الممرات الدولية، أو عن منع انتشار الأسلحة النووية، أو عن أخطار الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي، يكشف أن المملكة تنخرط في النقاشات الكونية الكبرى التي ترسم ملامح المستقبل. بهذا المعنى، فإن الرياض تقدم نفسها شريكاً في صياغة النظام الدولي الجديد، لا مجرد طرف يتأثر بتوازناته.
أما على مستوى التنمية والإصلاح الداخلي، فقد حرص الخطاب على الربط بين الداخل والخارج: رؤية 2030 بما تتضمنه من إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة، وتمكين للشباب والمرأة، ليست شأناً محلياً فحسب، بل مشروعاً يُقدَّم للعالم باعتباره الوجه الآخر للدبلوماسية السعودية. فالتنمية الوطنية هنا تتحول إلى مصدر قوة ناعمة، تعزز صورة المملكة كدولة قادرة على تحقيق التوازن بين التحديث الداخلي والانخراط الخارجي. وإلى جانب ذلك، فإن المبادرات البيئية مثل “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر” ومنظمة المياه العالمية التي أُعلنت من الرياض، تؤكد أن المملكة لا تكتفي بالمشاركة في أجندة التنمية المستدامة، بل تساهم في قيادتها.
بذلك، يمكن القول إن خطاب الأمير فيصل بن فرحان أمام الأمم المتحدة تجاوز كونه مجرد عرض للسياسات السعودية، ليشكل خريطة طريق لمرحلة جديدة، تُثبت أن المملكة أصبحت ركناً أساسياً في أي تسوية دولية أو إقليمية. إنها دبلوماسية تجمع بين الإنسانية والسياسة، بين الردع والوساطة، وبين الاستقرار الداخلي والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل النظام الدولي.






