أثار تصريح المبعوث الأمريكي إلى سوريا (توم باراك) الذي قال فيه: إنه لا يعترف بالشرق الأوسط منطقة سياسية شرعية، وإنها ليست إلا مجموعة قرى لقبائل تم تقسيمها على أيدي القوى الأوروبية، الكثير من الجدل؛ ليس فقط باختزاله الصادم أو ثقافته المحدودة، بل لأنه يعكس رؤية سطحية تتجاهل التاريخ والجغرافيا والواقع السياسي والاقتصادي لهذه المنطقة المحورية في العالم.
ونقول له: إن الشرق الأوسط لم يكن يومًا مجرد تجمعات محلية متناثرة يا (توم باراك)، بل هو قلب الحضارة الإنسانية، حيث بُنيت وولدت أولى المدن، وسُنّت الشرائع الأولى، وارتسمت معالم الدولة ومؤسساتها الأولى.
في بلاد الرافدين قامت حضارات سومر وبابل وآشور، وعلى ضفاف نهر النيل نهضت مصر الفرعونية التي أنارت العالم القديم بعلومها وفنونها وإدارتها. وفي الجزيرة العربية تبلورت حضارات سبأ ودلمون ومعين، بينما شكّلت الشام ملتقى للثقافات والإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ. ومن هذه الأرض انطلقت الديانات السماوية الثلاث التي لا تزال تؤثر في حياة الملايين حول العالم.
هذا الإرث العريق لم ينقطع مع الزمن، بل امتد ليؤسس كيانات سياسية حديثة منذ بدايات القرن العشرين، دولًا لها مؤسساتها وسيادتها ودساتيرها، وتتمتع بمكانة فاعلة في النظام الدولي.
إن اختزالها يا سيد (توم) إلى مجرد قبائل وقرى يُغيب حقيقة أنها تمثل اليوم أحد أهم الأقاليم الجيوسياسية في العالم.
فالشرق الأوسط يتميز بكونه ملتقى القارات الثلاث (آسيا – إفريقيا – أوروبا)، وممرًا رئيسيًا واستراتيجيًا للتجارة العالمية عبر مضائق مائية حيوية مثل مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس، ويشكّل محورًا رئيسيًا لاستقرار أسواق النفط والغاز العالمية. هذه الحقائق تجعل من الشرق الأوسط ودوله لاعبًا رئيسيًا لا غنى عنه في معادلة الاقتصاد والسياسة الدولية.
ولا يمكن إنكار أن البنية القبلية والعشائرية جزء أصيل من نسيج الشرق الأوسط الاجتماعي والثقافي، وهي عنصر مهم ساهم في تشكيل الهويات المحلية وإدارة المجتمعات عبر القرون، غير أن هذا المكوّن ليس سوى وجه واحد للصورة الكبرى؛ فبجواره مدن كبرى نابضة بالحياة مثل الرياض وبغداد ودمشق والقاهرة وغيرها من المدن، التي تشكّل مراكز سياسية واقتصادية مؤثرة إقليميًا ودوليًا. إن اقتصار رؤيتك يا سيد (توم) على أن الشرق الأوسط ليس إلا قبائل وعشائر وقرى، يشبه النظر إلى السماء عبر ثقب ضيق؛ فلا يُرى إلا جزء صغير بينما تغيب الفضاءات الأوسع.
لقد حاولت قوى كثيرة عبر التاريخ التقليل من شأن الشرق الأوسط أو تفكيكه إلى مكوّنات صغيرة يمكن السيطرة عليها، ومع ذلك ظلت هذه المنطقة تحافظ على حضورها المحوري؛ كمركز للحضارة تارة، وكساحة للتنافس الدولي تارة أخرى، وتارة كقوة فاعلة في الاقتصاد العالمي. واليوم، في ظل التحولات الجارية، ما زال الشرق الأوسط يثبت أنه ليس مجرد مساحة جغرافية، بل كيان حضاري وثقافي وسياسي لا يمكن تجاوزه أو تبسيط وصفه.
ولهذا فإن السيد (توم باراك) مدعو لإعادة النظر في توصيفه، إذ إن الإنصاف العلمي والموضوعي يقتضي النظر إلى الشرق الأوسط باعتباره فضاءً حضاريًا متنوعًا يجمع بين إرث التاريخ وثقل الحاضر وتطلعات المستقبل.






