كانت الكلمات ثقيلةً كالصخور، تخرق السكون بشجن يلامس الروح:
“بودعك.. وبودع الدنيا معك”.
كل مرة أستمع فيها إلى هذه التحفة الفنية التي كتبها ولحنها الموسيقار بليغ حمدي، وأداها بصوته أولاً، قبل أن تصبغها وردة الجزائرية بكل ما لديها من وجع، أشعر أن الزمن يتوقف لحظة.
فهنا لم تكن أغنية عابرة، بل كانت رسالة وداع حقيقية من روح إلى أخرى، لوعة مختزنة في كلمات بسيطة لكنها قاطعة:
“من غير سلام… ولا ملام.”
الإحساس كان عميقًا لدرجة تبدو كأنها نبوءة؛ إذ رحل بليغ حمدي بعد فترة ليست بالطويلة من هذه الأغنية، وكأنه كان يودّع الدنيا حقًا
ذلك المشهد الفني المتكامل – كلمات تحفر في الذاكرة، ولحن يعانق الكلمات، وصوت ينقل الإحساس بصدق – يجعلني، كلما أستمع إليها، أستعيد دهشة الفن حين يكون صادقًا لا متكلّفًا.
لكن السؤال الذي يؤرقني، ويؤرق كثيرين من جيلي، يظل حاضرًا:
ما الذي حدث؟ ولماذا نشعر أن العالم يودّعنا نحن هذه المرة؟
لم يعد الأمر يتعلق فقط بتراجع مكانة الأغنية من عمل فني متكامل إلى “مهرجان” من الأصوات النشاز والكلمات السطحية، بل امتد ليشمل كل شيء حولنا: من مجتمع يقدّر الفن والعمق، إلى عالم يطغى فيه الضجيج على النغم، والصراخ على الحوار، والسطحية على الجوهر.
ما الذي تغير؟
الحقيقة أن التحول شامل. الزمن تغير بلا شك، فأصبحت وتيرة الحياة سريعةً تستدعي فنوناً سريعة الاستهلاك، تواكب هذا الإيقاع المحموم. والناس أيضاً تغيروا، فباتت اهتماماتهم ومقاييسهم الجمالية مختلفة.
لكن ربما تكمن الإجابة الأعمق في تلك الحكمة الخالدة التي آمنت بها، وربيت أبنائي تبعاً لها، “لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم” والتي ينسبها البعض للإمام علي بن أبي طالب، بينما يذكر آخرون أنها تعود للفيلسوف اليوناني سقراط.
هذه الحكمة ليست ترفًا فكريًا، بل قانون حياتي. نحن، الذين نشأنا على “بودعك”، كبرنا في زمن كانت فيه للكلمة وزن، وللصوت قيمة، وللصبر طعم. . بينما أبناؤنا يولدون في عالم رقمي، تتدفق فيه المعلومات والموسيقى بلا توقف، مما يشكل ذائقتهم وطريقة إدراكهم بشكل مختلف جذرياً. المشكلة ليست في اختلاف ذوقهم، بل في انقطاع الحوار بين “جماليات” الزمنين.
أين موقعنا نحن من هذا كله؟
نحن جسر بين عهدين. مهمتنا ليست التذمر فقط من حاضر لا نستوعبه، ولا التعلق بشكل أعمى بماضٍ لن يعود. مهمتنا الأصعب هي أن نكون حكماء في فهم هذا التناقض. أن نقدّر الجمال الذي نشأنا عليه دون أن نحتقر ما يحبه أبناؤنا، وأن نسعى لنقل جوهر ما تعلمناه – من احترام للفن، وتقدير للعمق، وقيمة الصبر – ولكن بلغة عصرهم.
لن نستعيد زمن “بودعك”، وهذا ليس مطلوباً. لكن ما يمكننا فعله هو ألا نسمح لجمال ذلك الزمن أن يموت في قلوبنا. أن نستمر في مشاركته، ليس كحنين عاجز، بل كهدية نقدمها للأجيال الجديدة، نقول لهم: انظروا، كان هناك فن هكذا.. كان للحياة مذاق هكذا.. ويمكن أن يكون لها مذاق جميل مرة أخرى، حتى لو اختلفت النكهات.
في النهاية، الوداع الحقيقي ليس وداع الأغاني أو الأزمنة، بل هو أن نودع قدرتنا على التكيف والفهم والعطاء. ولطالما بقت فينا هذه القدرة، سنظل قادرين على العثور على الجمال، حتى في أكثر الأوقات ضجيجاً.




