بداية القول: فلسفة تختصر القيادة
من بين الجُمل التي تعبر حدود الزمان والمكان، لتتحول إلى مفاهيم إنسانية خالدة، تظل مقولة الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، حين قال بتواضع الحكيم: «الصدارة حيث أكون»، واحدة من أكثر العبارات عمقًا في التعبير عن فلسفة القيادة والكرامة الإنسانية.
لم تكن تلك العبارة مجاملة عابرة في مجلس، بل كان ت إعلانًا فلسفيًّا عن معنى الوجود الإنساني في جوهره. الصدارة ليست وسادة تُرفع فوق الحاضرين، بل هيبة تنبع من التواضع، وقوة تستمد من العدل، واحترام يولده حسن الخلق. ليست موقعًا يُمنح، بل هي حالة وعي بالذات، ومكانة أخلاقية يفرضها الإنسان بما يفعله لا بما يُقال عنه.
فالمكان لا يصنع الإنسان، بل الإنسان هو الذي يمنح المكان قيمته.
قنديل الصدر: نورٌ لا تطفئه العتمة
ويلتقي هذا المعنى بمقولة أخرى لا تقل عمقًا:
«من يحمل قنديله في صدره، لا يعنيه ظلام العالمين».
القنديل هنا ليس مصباحًا مادّيًا، بل ضمير مستنير ووعي أخلاقي يضيء طريق صاحبه وسط العتمة.
فإذا كانت «الصدارة حيث أكون» هي القيمة الذاتية الثابتة، فإن «قنديل الصدر» هو المنظومة الأخلاقية التي تمنح الإنسان رؤيته وبصيرته.
ومعًا يشكلان درعًا مناعيًا ضد التردي، لأن من يعرف قدر نفسه ويضيء قلبه بنوره، لا يحتاج إلى تصفيق أحد، ولا يخشى سواد الظروف من حوله.
الأصل الطيب وثبات الجذور
يقول الله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ» [إبراهيم: 24]
وهنا يشبه الله الإنسان الطيب بالشجرة الطيبة، جذورها في الأعماق لا تقتلعها العواصف، ولا تجففها حرارة الأيام. حتى لو حاول الانفصال عن فطرته، فإن جذوره تعيده إلى نوره الأول – فالخير جزء من نسيج وجوده.
«أليس الإنسان الطيب بأصالة لا يستطيع أن يكون سيئًا حتى لو حاول؟»
إنه سؤال يلامس جوهر الفطرة الإنسانية.
الطيبة كقوة لا كضعف
في عالم يمجد القوة المادية، وعلى عكس من يصف الطيب بـ«الدروشة» أو «الهبل»، فأنا أرى الطيبة سموًّا اختياريًا.
الإنسان الطيب لا يعجز عن الرد، لكنه يختار العلو الأخلاقي لأنه يرى في الصمت قوة، وفي العفو انتصارًا.
قد يتصنع السيء طيبة لبرهة، لكن الطيب لا يستطيع أن يتقن دور السيء، لأن نوره الداخلي يفضحه مهما حاول.
إنها مفارقة فلسفية: أن تكون أسيرًا لطيبتك، فتكون أحرر الناس.
رحلة الوعي: من المكان إلى الجوهر
أن حياتنا ليست سباقًا نحو المراتب، بل رحلة اكتشاف لصدارتنا الحقيقية، تلك التي نبنيها في داخلنا لا على أكتاف الآخرين. هي رحلة لتغذية «قنديلنا الداخلي» بالمعرفة والتأمل والحب، حتى لا نُعمى بظلام العالمين. إنها رحلة الوعي التي ينتصر فيها الإنسان على فراغ المكان بامتلاء الجوهر.
الحرية الأخلاقية: الصدارة الأخيرة
من يزرع الخير في داخله، ويصونه ويُعمّق جذوره، سيحصد ثماره يومًا، حتى ولو لم يطلب ذلك.
فالطيبون، في النهاية، أسرى لطيبتهم. لكنها ليست عبودية، بل أسمى أنواع الحرية.
الحرية الحقيقية هي أن تظلّ مخلصًا لجوهر الخير فيك، مهما اسودّ الطريق من حولك.
الحرية الحقيقية هي أن تظلّ مخلصًا لجوهر الخير فيك، مهما اسودّ الطريق من حولك.
خلاصة القول:
ليست الصدارة منصةً ترتفع، بل نظرةٌ تتعمق. ليست موقعًا تشغله، بل وعيٌ يشغلك. إنها ذلك الحضور الأخلاقي الذي يسبق قدومك، ويبقى بعد رحيلك..
«وهم المكان» يخبرك أنك ما تملك، بينما «قنديل الصدر» يذكّرك بأنك ما تكون.
الأول يعدك بسلطان مؤقت على الآخرين، والثاني يمنحك سيادة دائمة على نفسك.
كم من جالسٍ على قمة العالم وهو أسير فراغه، وكم من واقفٍ في زوايا الظل وهو سيد مساحته.
الفارق ليس في ضخامة الكرسي، بل في نقاء المرآة التي تواجهها كل صباح.
ويا للمفارقة: وهم المكان يحتاج إلى حراس وأضواء وبريق، بينما قنديل الصدر يحرس نفسه بنوره، ويُرى من مسافات لا تصلها الأضواء.
فلا تنخدع بمن يصفقون لموقعك ثم ينسون اسمك حين تخلعه؛ الأوفياء الحقيقيون هم أولئك الذين يتبعون نور قنديلك لا ظل مكانك.
الخلاصة الجوهرية
إذا أردت أن تعرف صدارتك الحقيقية، فاسأل: من أنت عندما لا يكون لديك منصب؟ ماذا تبقى منك عندما تُجرد من كل ألقابك؟ هناك، في تلك المساحة الخالية من الأوهام، ستجد نفسك إما ملكًا على ذاتك، أو شحاذًا على أبواب أماكن الآخرين.
فمن يحمل قنديله في صدره، لا يحتاج إلى ضوء خارجي يضيء طريقه، ولا يخشى سوادًا قد يلقيه العالم.
صدارته حيث يكون.




