في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، يبرز ملف النمو السكاني كأحد التحديات الاستراتيجية التي تستدعي اهتمامًا عاجلًا من الجهات المعنية. فبينما تسعى المملكة إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، تشير المؤشرات الديموغرافية إلى تراجع ملحوظ في معدلات الخصوبة والنمو السكاني، ما قد يُلقي بظلاله على مستقبل التنمية والاستقرار الاجتماعي.
تشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء إلى انخفاض معدل الخصوبة لدى المرأة السعودية من نحو خمسة مواليد في التسعينيات إلى ما يقارب 2.3 مولود فقط في السنوات الأخيرة. كما تفيد تقديرات البنك الدولي بأن معدل المواليد تراجع من 44 مولودًا لكل ألف نسمة عام 1980 إلى نحو 17 مولودًا مؤخرًا. هذه الأرقام تعكس تحولًا ديموغرافيًا عميقًا، ينذر بانكماش محتمل في حجم القوى العاملة الوطنية، وتراجع في معدلات الاستهلاك، وارتفاع في أعباء الرعاية الصحية والاجتماعية.
يرتبط هذا التراجع بعدة عوامل متشابكة، أبرزها تغير نمط الحياة لدى الأجيال الجديدة، حيث أصبحت النزعة الفردية والاستقلال المالي أكثر شيوعًا، ما أدى إلى تأخر سن الزواج وتراجع الرغبة في الإنجاب. كما أن ارتفاع تكاليف المعيشة والرسوم الحكومية والضرائب ساهم في تقليص قدرة الشباب على تأسيس أسر. ويُضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات البطالة في بعض المناطق، والتي تصل إلى 30 في المئة أو أكثر، مما يحد من فرص الاستقرار الأسري.
من جهة أخرى، فإن التوسع السريع في مشاركة المرأة في سوق العمل، رغم أهميته التنموية، لم يُواكب بتقييم ديموغرافي متكامل، ما ساهم في تأخير تكوين الأسر. كما أن غياب منظومة حوكمة سكانية متكاملة، وافتقار السياسات العامة إلى دراسات معمقة وقواعد بيانات دقيقة، يزيد من تعقيد المشهد.
وتحذر تقارير بحثية محلية من أن المملكة قد تشهد خلال العقدين المقبلين تغيرًا في التركيبة السكانية، مع ارتفاع نسبة كبار السن وتراجع فئة الشباب. هذا التحول قد يؤدي إلى اختلال في سوق العمل، وزيادة الاعتماد على العمالة الأجنبية، وتعثر في تحقيق مستهدفات التنمية.
لمواجهة هذا التحدي، تبرز الحاجة إلى تبني سياسات سكانية متكاملة تشمل دعم الأسر الشابة، وتوفير حوافز للإنجاب، وتطوير برامج توعوية تعزز من أهمية النمو السكاني المستدام. كما أن إنشاء هيئة وطنية للحوكمة السكانية قد يسهم في توجيه السياسات العامة بناءً على بيانات دقيقة ورؤية استراتيجية طويلة المدى.
ختاماً
إن تراجع النمو السكاني في السعودية ليس مجرد تغير اجتماعي، بل هو مؤشر استراتيجي على مستقبل المملكة. وإذا كانت التنمية الشاملة هدفًا وطنيًا، فإن ضمان تحقيقها يتطلب إعادة النظر في السياسات السكانية، وتبني نهج متوازن يربط بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويضع الإنسان في قلب المعادلة التنموية.





