
في صمت الليل، وقبل أن يستسلم الجسد للنوم ويسبح العقل في عالم الأحلام، تأتي خواطر الوجود لتزورنا. ومن بين العديد من الخواطر التي تجول في باطن العقل، أجدني – وقبل أن أستسلم أخيراً للنوم – ترد على خاطري فكرة الموت، فأبتسم بشكل غير عادي، وكأني أرحب بهذه الخاطرة!
أقول لنفسي: هذه الابتسامة الليلية ليست غريبة، بل هي بلا شك حصيلة رحلة عمر امتدت ثمانية وسبعين عاماً. إنها ليست دعوة للموت، بل ترنيمة رضا عن نداء القدر بعد أن أدى المرء دوره في المسرحية الإنسانية. إنها علامة على أن الموت لم يعد غولاً مخيفاً، بل تحول إلى:·
• نداء راحة بعد عناء عمر طويل.
• موعد لالتقاء الأحبة الذين سبقونا برحيلهم.
• ثمرة يقين وإيمان بوعد الله تعالى بحياة أوسع وأرحب.
• اكتمال للدورة الطبيعية التي لا معنى للحياة بدونها.
لكن القصة لا تنتهي هنا…
تبدأ الحكاية الحقيقية عندما لا تظل هذه الابتسامة حبيسة لحظة الخواطر الليلية، بل تتحول إلى طقس يومي مقدس. فقد أعتدت – بشكل شبه يومي – أن أفعل أمرين:
1. قبل النوم: أبتسم، أسبّح الله، أودّع اليوم بحلوه ومره، أغلق باب الهموم، وأستعد للسلام.
2. في الصباح: أغسل وجهي، أقف أمام المرآة، فأبتسم تلقائياً، وأقول: “الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني، وإليه النشور”.
ولطالما سألت نفسي: بماذا أُفسّر هذا الطقس المتكرر الذي أدمنته؟
• الابتسامة الأولى منطقية: تسبيح، رضا، تسليم لله، غلق لصفحة اليوم.
• أما الثانية – ابتسامة الصباح – فهي أعمق: ترحيب بحياة جديدة، حتى في الثامنة والسبعين! إنها دليل على أن القلب ما زال شاباً، ينبض بالشكر، ويرفض الاستسلام للزمن. ليست مجرد انعكاس على مرآة الحمام، بل انعكاس لروح تشعر بالرضا.
لماذا تتحول فكرة الموت إلى باعثِ للابتسام؟
لأنها – في النهاية – ليست نهاية، بل بداية. ولأنها تتجسد في أربعة معانٍ عميقة:
1. نداء الراحة: استراحة المحارب بعد معركة الحياة الطويلة. من آلام الجسد، من تراكم الهموم، من سجن الدنيا. كما قال رسول الله ﷺ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ».
2. موعد اللقاء: مع تقدم العمر، يسبقنا الأحبة. أتذكر زوجتي ام فيصل رحمها الله ، رحلت قبل ما يقارب 29 عاما، لا زلت اذكرها كل يوم. الآن أبتسم لأني أقترب من موعد لقائها. الفراق يصبح ترقباً للاجتماع.
3. ثمرة الإيمان: للمؤمن، الابتسامة ذروة اليقين. إنها ثقة بقول الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. إنها علامة قبول، استعداد للقاء الرب، نعمة لا تُقدَّر بثمن.
4. اكتمال الدورة: الحياة والموت وجهان لعملة واحدة. الموت هو الذي يعطي الحياة قيمتها. كمن ينهي يوماً طويلاً بنوم عميق ينتعش به الجسد والروح.
هدية الله للمُتأمِّل
فلا عجب أن تتحول فكرة الموت من مصدر للرعب إلى باعث للابتسام. إنها علامة نضج روحي نادر، رضا عن قسمة الله، واكتمال لدائرة إنسانية كريمة. هدية يمنحها الله لمن قضى عمره في التأمل، يخطئ ويستغفر، يذنب ويعود، فيمنحه عند خاتمته الطمأنينة والسكينة.
وأسمحوا لي في النهاية أن أوجه هذا السؤال للقارئ الكريم:
متى كانت آخر مرة ابتسمت فيها لفكرة الموت؟
أم أنك ما زلت تخشاه؟
فلنحمد الله على هذه النعمة، ونسأله أن يختم لنا ولأحبائنا بخير، وأن يجعل قبرنا روضة من رياض الجنة.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53)



