المقالات

من مكة الى العالم .. السعودية تصدّر نموذجها في خدمة ضيوف الرحمن

من مكة المكرمة التي تنبع منها انوار الهداية وتفيض منها رسالة الرحمة للعالمين، تنطلق المملكة العربية السعودية في رحلة جديدة من الريادة، رحلة عنوانها (من مكة الى العالم) هذا الشعار الذي تم رفعه لمؤتمر ومعرض الحج 2025 ليس مجرد عبارة احتفالية بل يعبر عن رؤية استراتيجية عميقة تتجاوز خدمة الحجاج داخل حدود المشاعر المقدسة الى بناء نموذج عالمي في الإدارة والتنظيم والتقنية والإنسانية يمكن ان تستلهم منه دول العالم حلولاً لتحديات إدارة الحشود والخدمات الإنسانية الكبرى.

لقد تطورت تجربة المملكة في إدارة الحج عبر عقود من الخبرة الميدانية، حتى أصبحت تدير بكفاءة عالية اعقد منظومة تشغيلية بشرية في العالم تدار سنوياً بكفاءة وانضباط يثيران اعجاب الخبراء والمهتمين والمتابعين حول العالم، حيث يجتمع ملايين البشر من أكثر 180 جنسية يجتمعون في مكان واحد ووقت واحد يؤدون شعيرة واحدة، وتدار رحلتهم بكل انسيابية وأمن وروحانية، هذه التجربة لم تأتي صدفة بل هي نتاج تخطيط علمي ورؤية قيادية واستثمار متواصل في الانسان والتقنية.

ومع إطلاق رؤية المملكة 2030 انتقل مفهوم خدمة ضيوف الرحمن من الواجب الديني الى ركيزة وطنية واقتصادية وحضارية، فالرؤية جعلت من هذا القطاع محوراً للتطوير المؤسسي والتحول الرقمي، وأكدت على خدمة الحاج تبدأ من لحظة تفكيره في أداء المناسك وليس فقط عند وصولة الى الأراضي المقدسة ومن هنا جاء التوسع في انشاء المنصات الرقمية والمبادرات النوعية التي جعلت من تجربة الحج والعمرة نموذجاً عالمياً في التكامل بين التقنية والقيم.

وتأتي منصة نسك مثالاً حياً على هذا التحول فهي بوابة رقمية موحدة تمكن الحاج والمعتمر من التخطيط الكامل لرحلته بدأ من طلب التأشيرة مروراً بالحجز والتنقل والسكن والإرشاد، وحتى الخدمات الميدانية وكل ذلك عبر واجهة رقمية واحدة تربط بين الجهات الحكومية والخاصة، ومعها جاء مشروع ( طريق مكة ) والذي نُفّذ في عدد من الدول الإسلامية والذي يُعد نموذجاً مذهلاً في تصدير الخبرة السعودية حيث يتم انهاء إجراءات دخول الحجاج من مطارات بلدانهم قبل ان تطأ اقدامهم أراضي المملكة في تجربة إنسانية وامنية متكاملة تدار وفق اعلى المعايير في الدقة والانسيابية .

وفي النسخة الخامسة من مؤتمر ومعرض الحج والذي يقام في مدينة جدة تحت شعار ( من مكة الى العالم ) تواصل المملكة تأكيد هذا الدور العالمي ، حيث يجمع هذا المؤتمر بين اكثر من 200 جهة من القطاعين الحكومي والخاص ومئات الخبراء والباحثين من داخل المملكة وخارجها ليكون منصة لتبادل الخبرات واستعراض احدث الحلول التقنية وإدارة البيانات والاستدامة البيئية والنقل الذكي والابتكار في الخدمات الإنسانية ، ومن خلال هذا الحث الكبير تسعى المملكة الى بناء جسور معرفية دولية تُظهر للعالم كيف يمكن الجمع بين القداسة والتنظيم وبين العبادة والتقنية وبين الاصالة والتجديد .

ان شعار ( من  مكة الى العالم  ) في جوهره يعكس فلسفة سعودية جديدة في مفهوم القيادة والخدمة تقوم على ان التجارب الناجحة يجب ان تشارك مع الاخرين لا ان تحتكر، فالمملكة لا ترى في الحج تجربة محلية تخصها وحدها بل تراها ملكاً للإنسانية جمعاء ورسالة حضارية تستحق ان تعمم ، ولهذا نجدها تسعى الى تدويل تجربتها من خلال الشراكات والاتفاقيات التي تبرمها مع الدول الإسلامية ومن خلال تدريب الكوادر وتبادل المعرفة، بل ومن خلال تصدير تقنياتها وانظمتها الذكية التي اثبتت نجاحها في المشاعر المقدسة الى دول أخرى يمكن ان تستفيد منها في تنظيم فعاليتها الكبرى .

ولعل ما يجعل النموذج السعودي في خدمات الحج فريداً انه يجمع بين الكفاءة التقنية والعمق الإنساني، فالمملكة لم تجعل التقنية غاية في ذاتها، بل وسيلة لخدمة الانسان، فكل مشروع او ابتكار في منظومة الحج هدفه التيسير من إحساس بالمسؤولية تجاه الحاج الذي جاء من اقصى الأرض لأداء ركن من اركان الإسلام.

لذا فإن استخدام الذكاء الاصطناعي او الروبوتات الخدمية او أنظمة المراقبة الذكية او التوجيه الصوتي بلغات متعددة ليس استعراضاً تقنياً بل تجسيد لفلسفة الرحمة التنظيمية التي تتبناها المملكة في تعاملها مع ضيوف الرحمن.

ان المملكة تمارس عبر منظومة الحج نوعاً متقدماً من الدبلوماسية الإنسانية، فهي لا تكتفي بخدمة الحجاج في المشاعر المقدسة او داخل حدودها بل تمتد بخدماتها الى بلادهم وتفتح قنوات تواصل وتعاون مع حكوماتهم، وتبني علاقات قائمة على الثقة والاحترام، فبرنامج (طريق مكة) ليس مشروعاً لوجستياً فحسب بل هو جسر دبلوماسي انساني يعزز صورة المملكة في العالم الإسلامي بوصفها قائدة للخدمة قبل ان تكون صاحبة للسيادة.

ومن خلال المؤتمر العالمي للحج تبرز السعودية اليوم كدولة تقدم للعالم نموذجاً ادارياً جديداً في التعامل مع الحشود البشرية، نموذج يقوم على الدمج بين العلم والايمان بين التخطيط الدقيق والرحمة الإنسانية فالعالم الذي يواجه تحديات متكررة في إدارة التجمعات الكبرى يجد في التجربة السعودية مادة ثرية للدراسة والاستفادة فإدارة ملايين من البشر في بيئة محدودة المساحة والزمن مع ضمان امنهم وسلامتهم وخدمتهم بأعلى المعايير الدولية هو انجاز يفوق بكثير ما تحقق في فعالية بشرية أخرى في انحاء العالم.

لقد تحولت مكة المكرمة بفضل الله ثم بفضل هذه الرؤية الى مختبر عالمي للابتكار الإنساني فالمشاريع الكبرى في المشاعر المقدسة أصبحت نماذج للاستدامة البيئية حيث تعتمد المملكة على الطاقة النظيفة في التبريد والانارة والنقل كما ان مشاريع النقل الذكي ومترو المشاعر تمثل نقله نوعية في إدارة الحركة البشرية دون فوضى او ازدحام، ومع كل موسم حج تضيف المملكة طبقة جديدة من التطور،وتبني على ما سبق لتجعل من كل موسم تجربة أكثر دقة وسهوله وراحة.

ولا يمكن تجاهل البعد الأكاديمي والفكري لهذه التجربة، فالمملكة تسعى من خلال مؤتمر الحج الى تحويل خبرتها الى معرفة علمية مؤسساتية تُدرّس وتُبحث وتطور، بحيث لا تبقى تجربة مرتبطة بالأفرادبل تنتقل الى الأجيال القادمة كإرث اداري وتقني متكامل.

ان تصدير النموذج السعودي في خدمات الحج الى العالم لا يعني بالضرورة نقله كما هو بل تكييفه حسب خصوصيات كل دوله مع الاحتفاظ بجوهره القيمي: الانسان اولاً، وهذا ما يجعل التجربة السعودية مرنه قابلة للتطبيق في مختلف البيئات وقادرة على الاسهام في تطوير منظومات إنسانية في العالم.

واخيراً يبقى الحج اعظم تظاهره دينية بشرية على وجه الأرض، وقد اثبتت المملكة انها قادرة على جعل هذه التظاهرة نموذجاً ادارياً وتقنياً وانسانياً فريداً، فينما تنهمك دول العالم في تطوير تقنيات في خدمة اقتصاداتها وامنها تنهمك المملكة في تطوير تقنيات لخدمة الانسان في عبادته ومن هنا تبرز خصوصيتها وتميزها، فهي تؤمن بان التقدم الحقيق هو الذي يكرم الانسان ويخدمه، وهكذا فان شعار ( من مكة الى العالم ) يتجاوز حدود الكلمات الى ان يكون مشروعاً حضارياً سعودياً يعيد تعريف مفهوم الخدمة والإدارة في العالم الإسلامي ويدعو الإنسانية كلها لتتعلم من مكة النظام والتنظيم، الكرم والاتقان، الجمع بين الروحانية والابداع، فمكة التي تهوي الناس اليها لكسب الطاعة، تهدي العالم اليوم فن إدارة الانسان بروح الايمان وعقل العلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى