المقالات

من نداء إبراهيم عليه السلام إلى رؤية 2030م… كيف أعادت المملكة تعريف خدمة الحجيج

تعيش مدينة جدة هذه الأيام حراكًا علميًا وثقافيًا مميزًا مع انطلاق ملتقى تاريخ الحج والحرمين الشريفين ضمن فعاليات مؤتمر ومعرض الحج والعمرة 2025، تحت شعارٍ بليغ: (من مكة إلى العالم). حدثٌ يختصر رحلة الإيمان والإنسان معًا، ويستحضر مسيرةً بدأت بنداء إبراهيم الخالد، وامتدت حتى يومنا هذا حيث تتجدد قصة الحج كل عام في مشهدٍ لا يشبهه شيء في العالم.

منذ أن صدح خليل الله إبراهيم عليه السلام بندائه في الناس بالحج، ارتبطت هذه الشعيرة بالروح والإنسان، وظلت عبر القرون جسرًا بين الأرض والسماء، ومشهدًا فريدًا تتجلّى فيه وحدة البشر على اختلاف لغاتهم وأوطانهم. الحج ليس عبادةً فحسب، بل هو تاريخٌ يمشي على الأقدام، ومسيرةٌ إنسانية تعبّر عن شوق الإنسان إلى خالقه، وعن قدرة الشعائر على جمع الأمم تحت رايةٍ واحدةٍ من السلام.

على امتداد التاريخ، كانت خدمة الحجاج مرآةً لحضارة الأمة الإسلامية؛ من قوافل الماء والأمن التي رافقت الحجيج في الصحراء، إلى الأسبلة والأربطة التي أنشأها الخلفاء والسلاطين، حتى محطات الاستراحة والمستشفيات في العهد العثماني. كل دولةٍ قدّمت ما يناسب عصرها، لكن روح الخدمة بقيت واحدة: تكريم الإنسان في طريقه إلى الله.

ومع قيام المملكة العربية السعودية، انتقلت الخدمة إلى مرحلة جديدة عنوانها العلم والتنظيم والتقنية. فقد أخضعت المملكة الجغرافيا بإبداعٍ هندسي، وسخّرت الذكاء الصناعي لخدمة الإيمان، وأعادت تعريف مفهوم الحج بما يليق بعصرٍ حديث دون أن تمسّ بقدسيته. من توسعة الحرمين الشريفين إلى مشاريع النقل الذكي وإدارة الحشود، غدت المملكة نموذجًا عالميًا في الجمع بين الإيمان والإتقان.

غير أن المشهد الأجمل في مواسم الحج الحديثة هو كسر حاجز اللغة بين الحاج والمسؤول، بين الزائر والمكان. فقد برعت المملكة في بناء منظومة ترجمة متكاملة جعلت من التواصل قيمةً إنسانيةً في قلب الشعيرة. وفي كلمته التي ألقاها خلال الملتقى، أشار مدير عام الجوازات إلى أن أجهزة الترجمة الفورية التي تعمل بـ137 لغة لتسهيل تواصل الحجاج القادمين إلى المملكة — وهو رقم يختزل فلسفة السعودية الحديثة في خدمة الإنسان أيًّا كان لسانه أو بلده.

بهذا الجهد المتكامل، تحوّل التواصل إلى جسرٍ حضاريٍّ وإنسانيٍّ يربط ملايين الحجاج برؤية واحدة، ويجعل من الحج حدثًا عالميًا بحق، يصل فيه الصوت من مكة إلى العالم بلا حواجز لغوية أو ثقافية. إنه التطبيق العملي لشعار الملتقى نفسه، إذ لا يمكن أن يصل نداء مكة إلى العالم إلا حين يُكسر حاجز اللغة، وتُفتح القلوب على اختلاف الألسن.

من نداء إبراهيم إلى رؤية 2030، يمتد خيطٌ واحد من النور: خدمة الإنسان في طريقه إلى الله. رؤية المملكة أكدت أن الحج والعمرة ليسا موسمَين عابرَين، بل رسالة حضارية تتكامل فيها الإيمان والمعرفة والإدارة. وهكذا تُعيد المملكة اليوم كتابة تاريخ الحج بلغةٍ جديدة، لا تعرف الصمت ولا الحواجز، بل تترجم الإيمان إلى أفعال، والضيافة إلى حوارٍ عالميٍّ راقٍ.

الحج في ظل المملكة ليس عبادةً فقط، بل منظومة إنسانية تجمع بين قدسية المكان ورقي الإنسان. إنه الامتداد الطبيعي لنداء إبراهيم، لكنه اليوم يُسمع بـ137 لغة، ويُفهم في كل قلبٍ جاء من كل فجٍّ عميق.

أ.د فتحية بنت حسين عقاب

جامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى