المقالات

هندسة الرعاية الصحية: حين يتحول الوقت إلى علاج

المقال العاشر في سلسلة هندسة الرؤية

منذ أن بدأ الإنسان ينظم عمله حول فكرة الزمن، أصبحت الرعاية الصحية الميدان الأصدق لاختبار قدرة الهندسة على خدمة الحياة. فالطب يرتكز على شبكةٍ متكاملة، لا على الدواء وحده؛ هي شبكةٌ من الحركة والمكان، تربط بين الطبيب والمريض، والمعلومة والتقنية، والوقت والحياة. هنا تظهر هندسة الرعاية الصحية كوجهٍ إنسانيٍ للهندسة الصناعية.

الهندسة الصناعية حين تدخل المستشفى، تركّز على تغيير طريقة تفاعل الجميع داخل النظام، لا على تغيير الأطباء أو الأجهزة. فالمنظومة تشبه المصنع في تنظيمها، لكن منتجها هو الوقت الآمن للمريض. كل دقيقةٍ تُختصر من الانتظار، وكل خطوةٍ تُعاد في مسارها الصحيح، تعني فرصةً أكبر للشفاء وتقليلًا للهدر في الموارد والجهد.

هذا المجال يضم أدوات الهندسة الصناعية في أدق صورها: تحليل تدفق المرضى، جدولة المواعيد والمناوبات، تخطيط المرافق لتقليل الحركة غير الضرورية، وإدارة سلاسل الإمداد الطبية. كما يعتمد على بحوث العمليات والمحاكاة والنمذجة الرياضية لتصميم المسارات التي تجعل الخدمات تعمل بتناغمٍ آليٍّ موجهٍ بالعقل الجماعي. وتشمل اللوجستيات العكسية الطبية إدارة آمنة وفعالة للأدوية منتهية الصلاحية والمخلفات الطبية وفق معايير الجودة العالمية.

وتاريخ هذا التخصص ممتد منذ منتصف القرن العشرين، حين حاول المهندسون تطبيق مبادئ الكفاءة والإنتاجية على المستشفيات. ومع مرور العقود، تطورت الفكرة من تحسين المهام الروتينية إلى بناء أنظمةٍ متكاملة لإدارة الجودة والسلامة، ثم تطورت إلى هندسةٍ ذكيةٍ توظّف البيانات والذكاء الاصطناعي لرفع كفاءة الخدمة وتحسين تجربة المريض.

في عام 1999، أصدر معهد الطب الأمريكي تقريره الشهير To Err is Human، الذي كشف عن حجم الأخطاء الطبية في المستشفيات الحديثة. منذ ذلك الحين، تحولت الكفاءة من هدفٍ اقتصادي إلى واجبٍ إنساني. وأصبحت هندسة الرعاية الصحية علمًا يوازن بين الجودة والسرعة، ويحوّل المستشفى إلى منظومةٍ تتعلم من أخطائها وتصحح نفسها باستمرار.

ومع التحول الرقمي، أصبحت البيانات هي المحرك الخفي لهذه الأنظمة. تُجمع في الزمن الحقيقي، وتُحلل لتتنبأ بالطلب على الأسرة والأدوية والكوادر الطبية. تُستخدم النماذج الرياضية لجدولة العمليات والمناوبات، ويُبنى القرار على تحليلٍ إحصائيٍ يقلل الهدر ويرفع مستوى السلامة. بهذا الفكر، يتحول النظام الصحي إلى شبكةٍ واعيةٍ قادرةٍ على التفكير الذاتي.

وتتجلى أصالة هذا التخصص في الأبحاث التي تربط المعادلة بالإنسان.
في هذا الإطار، قدّم الدكتور محمد طلال ميرة في أطروحته نموذجًا علميًا لتخطيط القدرة في الرعاية الصحية الريفية، استخدم فيه مفاهيم “عقوبة التأخير” لتقدير القيمة الاقتصادية للوقت في حياة المريض. دمج في نموذجه بين العوامل الاقتصادية والسلوكية، فحسّن توزيع القوى العاملة الطبية وخفّض متوسط انتظار التشخيص في عيادات الأورام من 27.9 يومًا إلى 1.2 يوم فقط. كما استخدم دالة الانحدار اللامتناهي للمسافة لقياس أثر بُعد الخدمة على توجه المريض في طلب العلاج، ونجح في بناء خوارزمية تحدد المواقع المثلى لمراكز التطبيب عن بُعد بحيث تصل الخدمة إلى أكبر شريحة من السكان في المناطق النائية.
هذا التوجه البحثي قدّم تصورًا علميًا جديدًا لكيفية تحويل الرحمة إلى معادلةٍ قابلةٍ للقياس والتحسين، وجعل من الزمن أداةً علاجيةٍ بقدر ما هو عامل كفاءةٍ تشغيلية.

وفي امتداد هذا الفكر الإنساني العميق، جاءت أطروحة الدكتور إياد خالد ميرداد لتجمع بين هندسة العوامل البشرية والهندسة اللوجستية في بيئات العمل. تناولت الدراسة التفاعل بين الجسد والتقنية في البيئات التي يجتمع فيها الإنسان والآلة في أداءٍ واحد. حللت الأداء العضلي والحركي للعاملين في النقل والتخزين والرعاية الطبية باستخدام الأجهزة الداعمة للحركة، وهي تقنيات قابلة للارتداء تخفف الحمل وتحافظ على طاقة العاملين.
اعتمد ميرداد على النمذجة الرقمية والتحليل الحيوي والمحاكاة ثلاثية الأبعاد، وأثبت أن التكرار المنظم للحركة يولّد “ذاكرة عضلية هندسية” تعيد توزيع الجهد تلقائيًا بين الإنسان والأداة، فيتحقق توازنٌ بين الطاقة والإنتاج وسلامة الجسد. هذا المفهوم يوسّع حدود الرعاية الصحية لتشمل العامل داخل النظام والمريض معًا، ويجعل من الجسد نفسه موردًا يُدار بالكفاءة ذاتها التي تُدار بها سلاسل الإمداد.
ومن هذا المنطلق، تتكامل أطروحتا ميرة وميرداد في بناء رؤيةٍ شاملةٍ لهندسة الرعاية الصحية؛ الأولى تنظّم القرار والموارد، والثانية تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والبيئة التشغيلية. كلاهما يبرهن أن الرعاية الصحية منظومة وعيٍ هندسيٍ تربط التقنية بالإنسان وتحوّل كل جهدٍ إلى معرفةٍ وكل معرفةٍ إلى جودة حياة.

ومع هذا التحول في الفكر والممارسة، تتوسع هندسة الرعاية الصحية لتصبح أحد المحاور الإستراتيجية في منظومة التحول الوطني. فالمملكة تعمل ضمن رؤية 2030 على بناء قطاعٍ صحيٍ مستدامٍ يعتمد على النمذجة الرقمية والذكاء الصناعي وسلاسل الإمداد الطبية المتكاملة، ليصبح النظام الصحي قادرًا على التنبؤ بالاحتياجات وتوزيع الموارد بدقةٍ في الوقت والمكان المناسبين.

الهندسة هنا تتجاوز تصميم العمليات؛ تمتد إلى تصميم القرار ذاته، بحيث تُقاس جودة الأداء بما تضيفه إلى حياة الإنسان ومستقبل التنمية. ومع نضوج الفكر السعودي، تبلور النموذج الوطني في الرعاية الصحية من تفاعل النماذج العالمية: من المدرسة الأمريكية التي صممت النظام حول القرار، ومن التجربة الصينية التي ربطت التقنية بالوصول الشامل، نشأ نموذج سعودي يوازن بين كفاءة الخدمة وعدالة الوصول، بين التقنية والرحمة، وبين البنية الرقمية والبعد الإنساني.

ومن هذا الوعي تتشكل ملامح المرحلة القادمة،
حيث تبدأ هندسة الاستدامة، وينتقل العقل الهندسي من حماية الإنسان إلى حماية الكوكب، ويصبح الحفاظ على الموارد استمرارًا طبيعيًا لفلسفة الرعاية نفسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى