المقالات

الصحة النفسية: بين الفهم الخاطئ والوصم المجتمعي

في اليوم العالمي للصحة النفسية الذي لا بدّ من استثماره من حيث التعريف بالصحة النفسية نذكّر بمفاهيم أساسية وهي أنّ الصحة النفسية جزء لا يتجزأ من رفاهية الإنسان، وهي لا تقلّ أهمية عن الصحة الجسدية. إلا أنّه بات لزامًا علينا تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة حول الأصحاء وغير الأصحاء نفسيًّا،. فكثيرًا ما تمرّ مواقف حياتية يتمّ فيها استخدام مصطلح “مريض نفسي” بشكل غير دقيق، أو قد يكون مهين في مجتمعاتنا العربية، فأصبح من الشائع أن يوصف الأشخاص الوقحين أو المتسلطين أو المتطاولين بـ”مرضى نفسيون” كتعبير عابر، وأحيانًا ساخر. وهو أمر لا يعبّر فقط عن جهل مجتمعي متكرّر بحقيقة الصحة النفسية، ولكنّه أيضًا يُعمّق الوصمة التي يعاني منها أولئك الذين يعيشون فعلًا مع اضطرابات نفسية.
الصحة النفسية تشمل العافية العاطفية، الاجتماعية، والمعرفية. وتتعلق بقدرة الفرد على التعامل مع ضغوط الحياة، وإقامة علاقات صحية، واتخاذ قرارات سليمة. ومع ذلك، عندما نرى سلوكًا غير مقبول اجتماعيًا، مثل الوقاحة أو التسلط، نميل إلى استخدام عبارة “مريض نفسي” كنوع من الإهانة أو التبرير لهذا السلوك، دون أن نفهم ما يعنيه ذلك فعليًا. وهنا أودّ التوضيح أنّ وقاحة الشخص ليست دليلًا على مرضه النفسي؛ فسلوك المتجاوز بوقاحة فعله غالبًا ما يكون مكتسبًا نتيجة تربية أو ظروف اجتماعية معينة. و قد يكون الشخص هو مَن اختار هذا الأسلوب للتعبير عن نفسه، لكنّه ليس بالضرورة مضطربًا نفسيًا،. كذلك المتسلّط قد يكون مدفوعًا بالأنانية أو القوة؛ فالتسلط في كثير من الأحيان يرتبط بشخصية الفرد أو سعيه للسيطرة، وليس دائمًا بسبب مرض نفسي. كذلك المتطاول لا يعاني بالضرورة من اضطراب نفسي، فقد يكون التطاول نتيجة الغضب أو العنف المكتسب، لكنه لا يعني بالضرورة أن الشخص يعاني من مشكلة نفسية.
وممّا يترتب على هذا الربط العشوائي غير الإيجابي بين المرض النفسي و السلوكيات السيئة وغير الأخلاقية والسلوكيات غير المقبولة اجتماعيًا أنّنا نرتكب خطأين كبيرين: الأول هو تشويه صورة المرضى النفسيين، فنُظهر الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية وكأنّهم أشخاص سيئون أو غير أخلاقيين، بينما أغلب المرضى النفسيين في الحقيقة يعانون بصمت ويحتاجون للدعم وليس للإدانة المجتمعية. والثاني هذا الربط المسموع والشائع والمتكرر يؤدي الى التقليل من المسؤولية الشخصية للمتسلّطين واللا أخلاقيين من أنّه “مريض نفسي” في محاولة لتبرير سلوكياتهم غير المنضبطة معهم، وبالتالي منحهم أعذارًا للإفلات من المسؤولية.
ويجدر القول إنّ الصحة النفسية ليست وصمة عار، والمرض النفسي ليس كذلك، ومن المهم أن نُعيد النظر في الطريقة التي نتحدث بها عن الصحة النفسية، لأنّ المريض النفسي لا يعني بالضرورة أنّه غير قادر على التحكّم بنفسه، أو أنّه خطر على الآخرين؛ فهناك العديد من الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية ويعيشون حياة طبيعية تمامًا، بل ويحقّقون إنجازات كبيرة. إذن تقع علينا جميعًا مسؤولية التوعية، ومعالجة هذا الفهم الخاطئ، وعلينا أن نبدأ بتثقيف المجتمع حول الفرق بين السلوكيات السيئة والاضطرابات النفسية؛ فليس كلّ من يتصرف بطريقة غير مقبولة يعاني من مرض نفسي، كما علينا اتخاذ كلّ الاحتياطات لتعطيل هذا الربط الجائر، والتوقف عن استخدام مصطلح “مريض نفسي” كإهانة أو وصف سلبي لأيّ شخص يتصرّف بشكل غير لائق، وكذلك التفريق بين السلوكيات والاضطرابات؛ إذ علينا أن نفهم أن السلوكيات مثل الوقاحة أو التسلط تكون نتيجة لاختيارات شخصية أو عوامل بيئية، وليست بالضرورة دليلًا على وجود مرض نفسي. كذلك علينا كمجتمعات واعية تعزيز الوعي بمسؤولية الفرد، فالأشخاص الذين يتصرفون بوقاحة أو تسلّط يجب أن يتحمّلوا مسؤولية أفعالهم، بدلاً من البحث كأعذار لهم.
خلاصة القول إن الصحة النفسية موضوع حسّاس ومهم يتطلب منا جميعًا التعامل معه بحذر واحترام؛ فوصف سيّء الخلق أو المتسلط أو المتطاول بأنّه “مريض نفسي” هو إساءة استخدام للمصطلح، يؤدي إلى ضرر مزدوج؛ تشويه صورة المرضى النفسيين الحقيقيين، و تجاهل الأسباب الحقيقية للسلوكيات السلبية. وعلينا أن نعمل على نشر الوعي الصحيح حول الصحة النفسية، وأن نكون أكثر حكمة في استخدام مصطلحاتنا، لأن ذلك لا يُساهم في تحسين فهمنا فحسب بل يساعد أيضًا في بناء مجتمع أكثر قبولًا ودعمًا للجميع.

أ.د. أماني خلف الغامدي

جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى