المقالات

ذكرياتي… وكيف تنمو الحروف (3–4)

في مقالي السابق ذكرتُ كيف أن جارنا العم علي كان يعاملني كأحد أبنائه، وكيف أن العم خلف — عندما علم بفقداني الكتب — ذهب فورًا إلى المكتبة وسدّد المال وأحضر بعض الكتب الأخرى. ورغم أن شظف العيش حينها وقلة ذات اليد كانا مسيطرين على مشهد معظم الناس، إلا أن الكرام لا يعرفون إلا العطاء.
وهذا عندما كانت «شوفة الريال» معزوزة، فكيف لو كان المال رفيق اليد والدرب؟

كنتُ عندما أبدأ في قراءة كتاب لا أتركه حتى أنتهي منه. ثم جاءت مرحلة الإعدادية، وقضيتُ فيها أول وثاني متوسط في الرحمانية بمكة، وكان مديرها المربي الجليل محمد سليمان الشبل الذي أعطى العلم كل ذاته وحياته.

وكان أيضًا هناك من نخبة المدرسين الأفاضل، المعلم كريم الخلق والمعرفة الأستاذ فيصل فطاني المسؤول عن حصة التعبير. وكان أستاذًا بحق؛ لم يكتفِ بالروتين: «أنت تكتب وأنا أصحح»، بل ساهم إلى حد كبير في ارتقاء قدراتنا في الإنشاء.
فكان من ضمن أفكاره — إضافة إلى شروحاته الذكية التي كانت تدفعنا إلى التزاحم على الكتابة بشغف — أن يوزع علينا كتب حافظ إبراهيم والمنفلوطي وبعض كبار الأدباء، في ذلك الوقت الذي كانت أعمارنا تتراوح بين 12 – 14 سنة.
وبعد توزيع الكتب علينا يقول:
«أريد من كل واحد منكم عندما أقرأ مقاله أن أعلم أنه قد قرأ الكتاب الذي أعرته إياه واستوعبه.»
وفعلاً كنا كذلك.

وكنتُ من ضمن الطلاب القلائل الذين يشاركون في صحيفة الحائط، وكان بعض الطلاب يسخرون من هواة الأدب بتعليقات محبِطة:
«شوف الأخ… مسوّي فيها إنه طه حسين!»
لكن ذلك نمّى لدينا عزم التحدي والتصدي.
فكتبتُ مقالًا عنوانه: «تجري السفن بما لا تشتهي الرياح» عكس المثل.
وبيّنتُ أن الرياح العاصفة غير البنّاءة، والتي همّها تحديد توجه السفن، لم تستطع ذلك؛ لأن السفن مقتنعة بمسارها ولها شخصيتها وقدرتها على تحقيق هدفها.
وأحدث المقال ضجة في المدرسة، وتلقيت الإشادة من المدرسين.

وكانت أولى علاقاتي بالأدباء مع الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين؛ فقد كنتُ عندما أذهب مع نسيبي إلى مكان عمله في ميناء جدة، أمرّ على مكتبه هناك لأستمع منه إلى ما استجد من جدل — الذي أثاروه في ذلك الوقت في مجلة الرائد التي يرأس تحريرها — حول إباحة الأغاني من عدمها، وكان الذي يدلي بذلك الدلو الأديب أبو عقيل الظاهري.

تخرجنا وعُيّنتُ في نجدة جدة، وأصبح هناك متسع لتتبّع الأدب والصحافة.
أتذكر أنه في ذلك الوقت، وأنا في سن 18 تقريبًا، زرتُ الشاعر الكبير محمد حسين فقيه في منزله، وكذلك محمود عارف وضياء عزيز ضياء.
وأتذكر أن الأستاذ ضياء كان يمرّ علينا في النجدة بين وقت وآخر، وأذكر مرة قال لي:
«يا ولدي… انتبه وأنت تكتب، فالصحافة محاذيرها كثيرة.»

وكنتُ أذهب إلى مطبعة الأصفهاني لألتقي بالقامة محمد حسين الأصفهاني، وأشاهد كيف تُطبع صحيفة البلاد؛ فقد كانت تُرصّ الحروف يدويًا.
عملٌ شاق… لكن يسهّله الشغف وحب العمل.
ثم أمرّ في الصباح الباكر وأحمل الصحيفة بيدي طازجة… تسرّ الناظرين.

وكنتُ من المعجبين جدًا بالأستاذ الكبير والعلامة محمد حسين زيدان، وألتقيه صدفة في بعض الأحيان — وما أجمل الصدف!
وكانت إحدى الصدف في مكتب ومطبعة الأصفهاني.
كان — على علو قامته — متواضعًا، عاملني كأني رفيق درب، وأنا أنظر بإعجاب لهذا الجبل الشامخ… وعبق التاريخ لا يفارق منطوقه.
وكيف أن — على علو قامته — يخاطب أحد الهواة بكل تواضع واحترام.
هكذا هم العظماء؛ عند العطاء في القمم، وعند اللقاء… إنسان من المنظومة الإنسانية الرحبة.

كانت هناك زاوية في جريدة المدينة عنوانها «العيون الساهرة»، يحررها عبد القادر كمال — الرائد في ذلك الوقت واللواء فيما بعد — وهو أحد رواد الشعر والأدب.
وانتقل إلى الرياض، وبترتيب بيننا وبين الجريدة قمتُ بتحريرها فترة من الزمن، ثم توقفت الزاوية في جريدة المدينة.
وكنتُ في علاقة عامة مع كل الصحف ورؤساء تحريرها.

فطلب مني الأستاذ المرحوم عبد الله خياط أن أقوم بتحرير تلك الزاوية ولكن بعنوان مختلف وهو «رجال الأمن».
وفي ذلك الوقت كان قد تعيّن المرحوم الفريق الطيب التونسي، وكان الانضباط والمتابعة من صفاته.
فطلب مني الأستاذ عبد الله أن أستأذن في تحريري للزاوية مدير الأمن العام، «لحفظ خط الرجعة» وتعطيل كيف ولماذا من المستوى العالي في الأمن العام أو إدارة العلاقات العامة.
وفعلاً وافق معاليه.
واستمررتُ محررًا لها حتى انتقلتُ إلى الرياض.

وكنتُ أستكتب الزملاء وأحثهم على ذلك، وبعد ذلك أصبحت مشاركاتي متناثرة بين حين وآخر حسب المناسبة.
أذكر — وأنا في نجدة جدة — وأيضًا عندما كنت ضابطًا في مرور جدة، نشارك في المناسبات العسكرية كيوم المرور، وكنتُ أهوي الزجل، والكثير منه كان عن مخالفات المرور.

مثلاً أذكر من زجلي:

اسمعني ما هي شطارة… لما تقطع الإشارة
يا أخي ترى خسارة… لما تتحدى المرور
يعني… زجل على قد الحال

وأيضًا بعد مباراة للاتحاد، وخاصة بعد الفوز، كنتُ أنشر زجلاً.
وأذكر بعد الفوز على فريق الوحدة مرةً — ولم أكن أنوي كتابة شيء — إلا أن أحد الإخوة الوحداوية الطيبين مرّ بجانبي وقال بتهكم:
«هيا يا أخويا… يا فرحتك… ورّينا شطارتك زي العادة وسوّي زجل!»
طالعتُ فيه وابتسمت وقلت له: أبشر… تابعني غدًا.
وفعلًا كتبتُ زجلاً امتدحت فيه فوز الاتحاد دون أن أمسّ نادي الوحدة العزيز.

كانت أيامًا جميلة بسيطة… ولكن ذات بُعد اجتماعي.
ولا أحلى…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى