ومرّت الأيام ما بين رضا وخصام مع الكتاب والقلم؛ فالانشغال كثر، ما بين العمل والأبناء والبيت وما إلى ذلك، وأصبحت القراءات شبه نادرة. وأصبح الكتاب شبه عملة نادرة، بحضور القنوات، واستأثر الجوال — مع التقنيات الهائلة — على شغف الناس، ولم يقتصر ذلك على الشباب، بل على الكثير من الأجيال، كلٌّ حسب ما يبحث عنه.
في إحدى الإجازات — وكانت لندن هي محط الاختيار الأخير والمستمر لقضاء إجازتي مع الأبناء كلما كانت الظروف مواتية، وذلك بعد أن زرت ربما أكثر من خمسين دولة — ففي نهاية المشوار لا بد أن تحدد المكان المفضل، وهكذا قررت أن لندن هي كذلك.
وكنت أرتاد مقهى يجمعني مع نخبة من الفضلاء، إخوان قلم وحرف، وفي مقدمتهم أبو الشيماء الطيب محمد سعيد طيب، وأحمد العرفج — وكان في نهاية دراساته هناك — والأستاذ جميل الذيابي.
وبعد إحدى الإجازات عُيّن الذيابي رئيسًا لتحرير عكاظ وذلك في أواخر عام 2015. فاتصلت لأهنّئه، فبادرني:
«لماذا لا تكتب في صحيفة عكاظ؟»
فقلت: لم أكن يومًا كاتبًا متفرغًا.
فقال: جرّب.
ومن ذلك التاريخ وأنا مستمر في التجربة.
وتنقلت بين عكاظ والوطن، ثم أخيرًا في جريدة مكة. وجدت أن الكتابة لا تحتاج معجزات، ولكن فقط أن تكتب على سجيتك… لا تتكلف. كن كما أنت.
وبحكم أني في حياتي إنسان ساخر وصاحب نكتة، كانت معظم كتاباتي تحمل تلك الروح. ومضيت فيها ما بين الساخر والجاد. كتبتُ حوالي 400 مقال متنقلًا من عنوان إلى آخر: في السياسة والرياضة والمجتمع.
لكن تظل أقرب مقالاتي لنفسي هي الساخرة، وبالذات تلك التي تعتبر نسيجًا خياليًا. بعضها كان تحت سلسلة «ماذا لو…»، وهي تخرج عن المألوف الموجود على هامش الحياة.
ومثال ذلك عندما كتبت عن الحيوانات وكيف تنتقد الإنسان، فيقول الفيل:
«يتهموننا بأننا جهلة ولا نحسن التدبير… فليكن. ولكن هل سمعتم أن الحيوانات تسرق أو انتهازية تستخدم مواقعها لإفساد البيئة والمجتمع؟»
وتعلو تلك الانتقادات عندما يقول الحمار:
«هل سمعتم مرة أن حمارًا أو جملاً أو أي حيوان آخر خان وطنه أو كان عميلًا لبلد آخر؟»
وهكذا انتقلتُ من الظاهر بيبرس وعنترة والمهلهل، ومن ثم إلى ميخائيل نعيمة والمنفلوطي وطه حسين والعقاد وأبي القاسم الشابي، ومن بعدهم إلى إحسان عبد القدوس وأنيس منصور وجودة والأدباء الساخرين، وفي مقدمتهم محمود السعدني وجلال عامر، وعمالقة أدبنا الذين ذكرتهم في مقال سابق.
وامتدادًا إلى البرامج والحوارات التلفزيونية الهادفة، فكل أولئك تتلمذنا على معارفهم، ونهلنا من معين عطائهم، وحاولنا أن نسير في ركاب ما قدموه من أدب وعلوم. ولكن كل ذلك كان جهد المُقِلّ، وتمنّيت أن أكون فيما أقدّم مقبولًا وخفيف الظل.
طالبني الكثير من الإخوان أن أضم تلك العناوين في كتاب. قد يكون ذلك نهاية المطاف؛ فما كل ما يُعلم مباح، ولا كل ما يُحدَّث يُقال. ولكن الفكرة في ذهني أن يقوم الأبناء بذلك في يوم ما.
وسأضع عنوان الكتاب من الآن، وهو: «أنا إنسان بسيط».
وكان ذلك عنوان أحد مقالاتي الأثيرة على نفسي، والذي أروي فيه كيف أن أحد ذوي المناصب — عندما حاول أن يعيش حياته ببساطة كأي إنسان بعد تقاعده — واجه انتقادات عدة.
فقد كان صاحب معالي، فكيف يجوز أن يسير بدون غترة وعقال؟
أو يأكل آيسكريم في مول؟
أو يحضر مناسبة بدون مشلح؟
الإنسان مهما تقلّد من مناصب أو علا في مرتبه، تبقى التسمية التي لا تتغيّر: إنه إنسان.
ولكن…
هل يرى نفسه واحدًا من خلق الله كما ولدتنا أمهاتنا؟
أم أنه — بعد منصبه — أصبح وليد ذكاء اصطناعي اسمه الخيلاء، وشعاره:
«أنا… ومن بعدي الطوفان.



