المقالات

الشرقيّة… حيّ يسكن الذاكرة (5-8)

يحلّ رمضان على حيّ الشرقيّة كما يقبل الضيف المحبوب؛ يحمل في يده الطمأنينة، وفي قلبه البهجة، وفي خطاه إيقاع الزمن المضيء. وما إن يُرى الهلال حتى تهتف القلوب قبل الألسن: «جاء رمضان!»، ويعلو صوت المدفع من مرتفعات بني مناحي، فتتنفّس الأزقّة بعمق، وتغتسل الأرصفة من غبار الأيام، استعدادًا لزمنٍ آخر لا يشبه سواه.

تتبدّل الملامح في الشرقيّة؛ ينام النهار على استحياء، وتستيقظ الليالي على وقع الذكر، وتبتهج الأرواح كما لو أن الحياة خُلقت من جديد. يتحوّل شارع عكاظ إلى مهرجان شعبي نابض، تتوزّع فيه بسطات الرقاق والسنبوسة واللقيمات والطرنبة، وتفوح الروائح الشهية على أطراف المنشية. وعلى جنبات الطريق، تتهادى السوبيا في أكوابٍ باردة، وتُعرض البليلة في قدور نحاسية، ويرتفع نداء الباعة بصوتٍ مأنوس يشبه الأدعية… أصواتٌ تحفظها الذاكرة كما تحفظ دعاء الإفطار.

وفي “العصريّة”، يخرج الشباب بالمئات إلى أماكن تجمّعهم المعروفة؛ يجلسون على الأرصفة—بل على حواف الأرواح قبل الأرصفة—يتبادلون الضحك، ويتهيأون لشراء وجبتهم الأساسية: التميس والفول. ينتشرون في شارع عكاظ كأنهم خيوط فرح تسبق أذان المغرب، في طقسٍ رمضاني لا تكتمل الذكرى بدونه.

أما الأطفال، فتغمر عيونهم أنوار البهجة. تخرج الألعاب من مخابئها: الفرفيرة، المسدسات المائية، البالونات، والدراجات الهوائية التي تزدهي بالأنوار الملوّنة. تُنصب المراجيح أمام البيوت، وتُعلّق الزينة، وتتلألأ الحارات كما لو كانت تحتفي بقادمٍ أعظم. كل زاوية تتحوّل إلى فسحة أمل، تُنشدها أصوات الباعة وتبتسم لها وجوه الأهالي.

وبعد صلاة التراويح، لا تخبو الحياة… بل تبدأ من جديد. العائلات تتنزّه في نسيم الطائف البارد، والشوارع تمتلئ بالبهجة. الشباب يستعرضون دراجاتهم الهوائية والنارية المزيّنة بالشرائط، يمرّون في مواكب صغيرة، وكل واحدٍ منهم كأنه يكتب اسمه على صفحة الفرح.

وتُضاء محلات البلد، ويبدأ الاستعداد للعيد. الخيّاطون يعملون بلا توقّف، وخان الملطاني يزدحم بالزبائن. ومن الهبّاش تُشترى الحلاوة الطحينية والشريك والعيوش والشابورة والمفروقة والأجبان والزيتون؛ قوائم مكتوبة بخط اليد، تشبه وصايا الفرح التي لا ينبغي أن تُنسى.

ولا يكتمل رمضان في الشرقيّة إلا بـ مطعم السيد عمّ فليته الشهير؛ بعد صلاة العشاء يتجمّع الشباب حول الكبدة الساخنة والشوربة الطيبة، يملأون المكان بالضحك والأحاديث، وكأنهم في مجلس من مجالس العيد المبكر.

وفي الأيام الأخيرة، تنشط حركة المصطافين القادمين من نجد ومكة وجدة، يختار كثير منهم السكن في الشرقيّة، فيزداد الحيّ حيوية، وتكتسب الليالي نكهة مختلفة. تمتلئ المساجد بالمصلّين، ويصدح صوت الأئمة في التراويح والقيام، وتهدأ الأرواح تحت أجنحة التهجّد كأنها تذوب في نورٍ لا يُرى.

لم يكن رمضان في الشرقيّة زمنًا فحسب…
بل طقسًا من الفرح الروحي، ومدرسة للسكينة، وتجربةً وجدانية لا يكتبها التاريخ، بل يحفظها القلب… وتوقظها الذكرى كلما هلّ الهلال من جديد.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى