في الميزانية الأخيرة وقف ولي العهد ليحدّد لحظة وطن تتحرك إلى المرحلة الثالثة من رؤيتها. قال بوضوح:، ” إن المواطن في صدارة الأولويات، وإن ما تحقق من إنجازات جاء بفضل التوجيهات الملكية وجهود أبناء الوطن، وإن الاقتصاد السعودي يتقدم بنمو غير نفطي مرتفع، وتمكين غير مسبوق للشباب والمرأة، وتحوّل مالي يجعل التنمية مستدامة”.
هذه الروح تمنح النقد شرعيته؛ لأن النقد هنا يطلب أن تصل الرؤية إلى البحر… كما وصلت إلى البر.
وتقوّي هذا المبدأ كلمات وزير الإعلام سلمان الدوسري، حين قال:، “إن النقد البنّاء واجب، وإن كشف العيوب خدمة للدولة، وإن من حق المواطن والإعلام أن يقولوا ما يرونه صوابًا ما دام الهدف خدمة البلد”.
هذه ليست دعوة للاعتراض، بل دعوة لاستكمال الصورة.
لكن على الساحل، يبدو البحر بوجه متعب. في السنوات الأخيرة أصبحت الممارسات التنظيمية تُزرع في البحر أسرع مما تُبنى المراسي. منصات تتغير، أسماء تتبدل، لكن الجملة التي يسمعها كل صاحب قارب لا تتغير: اضغط وادفع… صرّح وادفع… اغلط تُغرم… انسَ تُعاقب. وظهرت رسوم «زاول» بين يوم وليلة بلا تقديم ولا تمهيد؛ صدمة تختصر المسافة بين القرار والواقع.
وحين تسأل أهل البحر: من هو المشرّع؟ لا تأتيك إجابة واحدة. تأتيك قائمة طويلة: وزارة النقل، وزارة الاتصالات، وزارة التجارة، هيئة الموانئ، هيئة البحر الأحمر، الأمانة عبر الرقابة البحرية، الموارد البشرية ومنصاتها، المركز السعودي للأعمال، هيئة الزكاة، سبل، وحتى منصات إلكترونية لا يعرف أحد أين تبدأ مسؤوليتها وأين تنتهي. وفي الواجهة يقف قطاع سلاح الحدود — بمهنيته واحترامه — ليجمع كل هذه الخيوط في نقطة واحدة.
وهنا بالضبط تتشكل البطريركية التنظيمية؛ ليست سلطة واحدة ترسم الطريق، بل عدة سلطات تتصرف كأبٍ أعلى، كل جهة تصدر أمرًا، وكل جهة ترى أن حقها في الإلزام سابق على واجبها في الخدمة. سلطة أبوية متعددة الرؤوس، تتوقع الطاعة من المواطن حتى عندما لا تتكامل فيما بينها، وحتى عندما لا يعرف المواطن من الذي يصدر القرار أصلًا. والنتيجة أن التشريع لا ينزل للناس كمنظومة، بل كأوامر متفرقة، وكل جهة تُلقي عبئها على المستفيد، بينما لا يتحمل أحد مسؤولية السياق الكام
وفي الواجهة يقف رجال سلاح الحدود بمهنيتهم واحترامهم، لكنهم عمليًا يتحولون إلى مكتب بريد تنظيمي يستقبل ملفات المواطنين في ملف علاقي يجمع أوراق كل المشرّعين. يرفعونها إلى نظامهم ثم يعيدونها ويأذنون بالإبحار. لا ذنب لهم؛ فالأنظمة لا تتكامل، والمنصات لا تعرف بعضها، والمواطن هو الذي يجمع شتات الجهات.
الاتصالات تفرض أجهزة بحرية باهظة، وترفع لها الأوراق إلكترونيًا، ثم تعود الطلبات بعد عشرة أيام لأن نظامها لا يعرف قاعدة بيانات المنشآت. أجهزتها تفقد الإشارة في وضح النهار، والملاحة تتشوش، والواقع أن التواصل كله يجري بالجوال.
النقل تطلب فحصًا ورسومًا وإرفاقًا كاملاً للأوراق، ثم تطلب مئة ريال لطباعة ورقة إلكترونية، أو زيارة موظف الوزارة ليضغط زرًا يكتمل به التجديد. التجارة تطلب ما يطلبه غيرها، والنتيجة أن المواطن يركض بين منصات لا تتحدث.
هذا هو التشريع. أما المرسى… فله حكاية أخرى.
في جدة، تبدو الحقيقة بأوضح صورها. ستة مراسٍ رئيسية في خور أبحر، محاطة بمراسي المنتجعات والمساكن الجديدة، لكنها تعمل على الحد الأدنى. ماء ساعة في الشروق وساعة في الغروب، كهرباء غائبة، أرصفة خطرة تجرح بدن القارب، مواقف ضيقة لا تناسب أطوال القوارب ولا عرضها، ممرات لا تراعي كبار السن وأصحاب الهمم، ورش محذوفة إلى أطراف المدينة، وقطع غيار بلا موعد. الأسعار تبدأ من ثمانية عشر ألفًا في المدعوم، وتقفز فوق الثلاثين والخمسين، وتتجاوز المئة ألف في الخاصة دون منظومة تشغيل تليق بهذا العبء. يكفي أن يتغيّر المشغّل لتقفز الأسعار بلا إضافة سوى قطع التذاكر وتنظيم السرى واستقطاع من كل رحلة مع كل دقة سلف للمحرك، فوق الإيجار السنوي. منشار يأكل صعودًا ويأكل نزولًا.
وتبدأ الفجوة من “السرى”. ميزان يفترض أن يكون عادلًا، لكنه يميل مع المرسى لا مع المستأجر. كلما قلّ الزبائن تضاعفت حصص قوارب المرسى، بينما المستأجر الذي يدفع كامل إيجاره يرى دوره يتبخر؛ رحلته اليومية تتحول إلى مرتين في الأسبوع.
ومع العمرة طوال العام، تتكشف المفارقة. المعتمر مصدر رزق آمن لأهل البحر، لكن بعض المراسي تُقصي المستأجرين وتحوّل الرحلات لقواربها فقط. لا يسمح لأي قارب بنقل معتمر دون المرور بمكتب التسجيل الملحق بالمرسى، والتسجيل عمليًا بوابة تمرّ عبرها قوارب المرسى وحدها. المستفيد يرى حركة الناس أمامه ولكنه محروم من المشاركة. هنا، بعد هذا كله، يفهم أهل البحر معنى “ويل للمطففين” بعمق لا يحتاج شرحًا.
ويصل صاحب القارب إلى المشهد الذي يعرفه جيدًا: سيخ شاورما ثابت؛ سكين أمامه ونار خلفه. رسوم تتراكم، شروط تتسارع، دخل يتقلب، زبائن تتناقص، ومراسي تتصرف كمنشار يأكل صعودًا ويأكل نزولًا.
ثم تأتي الصيانة، الوجع الأكبر. تغيير زيت بثلاثمئة وخمسين ريالًا يتحول إلى ألف وثلاثمئة بسبب فتح بوابة وإنزال وانتظار وزيارتين لسلاح الحدود: تصريح إخراج وتصريح إنزال. الورش قليلة؛ بعضها غير نظامي، وبعضها شبه نظامي لغياب التشريع والدعم، ومحاصرة من العمالة السائبة. قطع غيار شحيحة، وإن حضرت ارتفع سعرها، وإن تأخرت ضاعت الرحلات. لذلك يلجأ كثيرون إلى الصيانة ليلًا؛ البحر يتأذى والبيئة تدفع ثمن الفراغ التنظيمي.
وبعض أهل الشرقية يرسلون قواربهم إلى البحرين وقطر والإمارات والكويت لأن الصيانة هناك أسرع وأرخص وأكثر مهنية. مقارنة موجعة لكنها حقيقية.
والشبح القادم هو التأمين الإلزامي. يُفرض ثم يُؤجل لعدم اقتناع الشركات، وتتردد الأرقام بين أهل البحر بأنه سيصل إلى عشرة آلاف ريال لقارب بطول عشرة أمتار، بينما تأمين السيارة التي تواجه مخاطر الطرق يوميًا أقل من ألف ريال. وعندما تُسأل الجهة التنظيمية يكون الرد: «الدول المجاورة طبّقت التأمين». جميل. لكن تلك الدول لديها مراسٍ منظمة، وورش، ومحطات، وخدمات إنقاذ، وبنية متكاملة. المقارنة بلا أرض مشتركة ظلم للناس وظلم للرؤية.
وعلى امتداد الساحل من صروم إلى الطفية والليث، مراسٍ مجانية لكنها بلا ماء ولا كهرباء ولا مرافق. صياد يحمل الماء والبنزين والغذاء والمهملات على ظهره، بينما المنطقة مقصد لسياح يبحثون عن ثراء البحر وخبرة البحّارة المحليين. مشاهد لا تليق برؤية 2030 ولا بجودة الحياة.
وإن وقع حادث، لا قدر الله، تبدأ الجهات بالتدافع. هيئة الموانئ تطلب تقريرًا، والإسعاف على البر يطلب تقريرًا آخر، والتأمينات تدخل باعتبارها إصابة عمل إن كان القارب منشأة، وسلاح الحدود — مضطرًا — يوقف القارب حتى ورود تعليمات من المشرّعين جميعًا. عندها يقول صاحب القارب: ليتني التزمت الصمت وطلبت العون من أصحابي بدل الدخول في دوامة الجهات.
وفي مصر، في شرم الشيخ والغردقة، تتحرك يوميًا أكثر من ألف قارب في منظومة تُنتج أكثر من أربعة عشر مليار دولار سنويًا، مع أكثر من عشرة ملايين زائر، وثلاثمئة مركز غوص، وموانئ تُجهّز الرحلة في ربع ساعة، ومياه كأنها مرآة من صفائها. صناعة وصيانة القوارب تساهم بوضوح في اقتصاد البحر الأحمر، ومعاهد تدريب ومصانع تعمل داخل المراسي. كل دولار يدخل البحر يتحرك أفقيًا بين النقل والصيانة والفنادق والمطاعم والموانئ والمتاجر والأمن.
وفي فورت لوديرديل في فلوريدا، يظهر المثال النموذجي: تخزين جاف آلي، رافعات ذكية، مبانٍ تحمي من العواصف، خدمات دقيقة، تشغيل بمستوى مصنع، وفلسفة واحدة: الخدمة قبل الرسوم.
وهنا تظهر قيمة مشروع ثلاثة من مهندسي الهندسة الصناعية: أحمد عشقان وراضي الأحمدي وسادن الكنيدري. أعادوا طرح سؤال البحر كما يجب أن يُطرح: كيف ننتقل من مراسٍ خانقة إلى مراسٍ منتجة؟ كيف يتحول القارب من عبء إلى فرصة؟ كيف يصبح البحر جزءًا من اقتصاد يتحرك أفقيًا وعموديًا في الوقت نفسه؟ رأوا المملكة قبل الرؤية، ويعيشونها اليوم وقد حققت 93٪ من مؤشرات مستهدفاتها، ويدركون أن السؤال لم يعد: متى نكون مثل الآخرين؟ بل: متى نصنع نموذجنا الذي يتفوّق على الجميع؟
ويبقى الدرس الذي قدّمه عمر بن الخطاب: لا عقوبة بلا قدرة ولا التزام بلا تمكين.
ومن صندوق الاستثمارات العامة نتعلم الفلسفة الأوضح: استثمار في كل شيء إلا جيب المواطن؛ لأنه آخر ما يجب المساس به. الصندوق يبني قبل أن يُلزم، ويهيئ القيمة قبل أن يطلب المقابل، وهذا هو الطريق الذي يجب أن يبدأ به البحر: خدمة قبل رسم، تمكين قبل التزام، بناء قبل محاسبة.
والحلول واضحة: مدن وهجر صناعية على الساحل للصناعة البحرية، دعم الورش بعد تشريعها ومنحها مساحات وفرصًا، إنشاء مدارس ومراكز تدريب لمهن البحر، تشغيل يماثل فورت لوديرديل، بناء مواقف متعددة الأدوار بأنظمة ميكانيكية وآلية، وتوحيد المشرّعين تحت مظلة واحدة.
ناقوس الخطر دقّ والفجوة بين الرؤية والواقع تتسع، وكل تأخير يجعل الرسوم أعلى من الموج. أهل البحر كانوا يقولون: أهل البحر يعيشون. واليوم يقولون: أهل البحر صامدون.
وهنا تبدأ الأسئلة التي تنتظر الإجابة: هل رأيتم البحر كما يراه أهله؟ هل رأيتم أثر القرار على التاجر والصياد والمتنزه؟ هل سيفتح قراركم البيوت أم يغلقها؟ هل الخدمة موجودة قبل الالتزام؟ هل الامتثال ممكن قبل المحاسبة؟
ويبقى السؤال بلا تجميل:
عن أي بحر تُشرّعون… والبطريركية التنظيمية تُربك الموج؟






