شارع عكاظ… حين يصير الطريق مزارًا للرُّوّاد
يمتدّ شارع عكاظ في قلب الشرقيّة كما يمتدّ الحنين في قلب الإنسان، خطًّا من نورٍ يربط الذاكرة بالحاضر، ويُعيد إيقاظ الطبقات العميقة من المشاعر التي لا تزول مهما تبدّلت الأيام. يبدأ الطريق من حيّ المنحنى، حيث تنحني الجادة كابتسامة قديمة تُلقي التحية على العابرين، ثم ينساب مستقيمًا، متّسعًا كصدر المدينة، حتى يمسّ أطراف الفيصلية، محمولًا بملامح الناس وروائح الزمن ووقع الخطى التي مرّت عليه جيلًا بعد جيل.
في كل ظهيرة، وكل مساء، يتشكّل مشهد لا يشبهه أيّ شارع في الطائف. الأرواح تتقدّم قبل الأجساد، كأنّ لعكاظ جاذبية خفية تستدعي أبناء المدينة من كل الأحياء: من الرَّيان، والشهداء، والعزيزية، والبلد، وقروى، والخالدية، والسلامة… يجيئون وفي جيوبهم بقايا ضحكات اليوم، وعلى شفاههم توقٌ لصحبةٍ يدركون جيدًا أنهم سيجدونها هنا. تتناثر مجموعاتهم على الأرصفة كما تتناثر النجوم في ليلٍ صافٍ، وتصبح المقاهي المتراصّة على الجانبين أوطانًا صغيرة لا تحتاج إلى موعدٍ مسبق. أكثر من عشر مقاهٍ تفترش الأرصفة، تختلط فيها رائحة الشاي بالحبق مع ضحكاتٍ عالية وكؤوسٍ تتلألأ تحت أنوار المساء، كأنّ الشارع نفسه يتنفّس من خلالها.
هناك، على كراسٍ خشبية مشدودة الحبال، يجلس شبّان المدينة. يراقبون العابرين بعيون ساخرة أو حانية، يتبادلون نكاتهم القصيرة، ويرفعون فناجين “أبو أربعة” و”أبو عشرة” كما لو أنهم يرفعون صلوات صغيرة للحياة. الزمن هنا لا يُقاس بالساعة، بل بالطمأنينة، وبذلك البطء الجميل الذي يتّسع للّقاء ويحوّل اللحظة إلى دعاءٍ مفتوح.
وفي منتصف الشارع ينهض سوق “المنشية” الشعبي، قلب نابض لا يهدأ. الدكاكين متلاصقة كأنّها عائلة واحدة: لحّامٌ يجاور بائع خضار، وخيّاط يصافح صاحب البقالة، ومحلات كهرباء تفوح منها رائحة المعدن والجهد، وإلى جوارها مطاعم صغيرة تتصاعد من أبوابها روائح البهارات المشبعة بذاكرة الطائف. تتقاطع الأصوات، وتتمازج اللهجات، فيتشكّل نسيج اجتماعي لا يشبه إلّا هذه المدينة… مدينةٌ تسع الجميع، وتترك أثرها على كل من مرّ بها.
وعلى جانبي الطريق يقف رجال ارتبطت أسماؤهم بالذاكرة مثلما ارتبط الشارع بهم. محمد اليماني، بائع أشهر “آيسكريم” في الشرقيّة، يلوّح بمغرفته كأنّه يوزّع شيئًا من برودة الفرح. وإلى جواره يقف الحارثي بائع الحبّ، رنين حباته المعدنية صوتٌ صار جزءًا من هوية المكان. ثم يمتدّ الصف إلى الطاحون، وإلى عمّ مسعود الذي لا يخطئ العابرون رائحة فولِه الدافئة مهما ازدحم الشارع. وعلى مقربةٍ منهم ينتشر البخارية البارعون في التميس؛ أرغفتهم تتوهّج كأهِلّة صغيرة على الجمر، تُدفئ قلوب المارّة قبل بطونهم.
وفي رمضان، يتحوّل عكاظ إلى مائدة روحية تمتلئ بالضوء. رائحة البليلة والسنبوسة والسوبيا تتعانق مع ضياء الفوانيس، والناس يصطفّون أمام بسطات الفول والتميس كأنهم في صلاةٍ جماعية تُقام على مائدة الشارع. كلّ من حضر يصبح من أهل المكان، وكل لقمة تُقسم تزيد الحميمية وتُعيد للروح شيئًا من صفائها.
وحين يأتي العيد، تتبدّل الملامح ولا يتبدّل الوهج. الأطفال يركضون بين الدكاكين، والمفرقعات ترسم خطوطًا من نور، وبعض المقاهي تقدّم الشاي مجانًا احتفالًا بالمناسبة. وفي آخر الطريق تعلو طبول المزمار مُعلنةً بدء رقصة عرضة، وكأنّ الفرح نفسه نزل من السماء ليمشي مع الناس.
لم يكن شارع عكاظ مجرد طريق؛ كان مصلّى للروح، ودفترًا مفتوحًا للذكريات، ومسرحًا بسيطًا تتجاور فيه الحياة بصفائها الأول. فيه تتنفّس الأرواح، لا لتشتري ولا لتتسوّق، بل لتتذكّر… ولتقول بهمسٍ خفيف:
( كنّا هنا… وما زلنا )

