المقالات

التفاهة.. الكلمة التي تهدم

رغم ازدهار العالم الحضاري والتقني وتقدّمه العلمي، وانتشار الوعي والمعرفة بين الناس على نطاق غير مسبوق—بفضل حيوية الشباب وقدراتهم المتفوقة وخيالهم الخلّاق—إلا أن كلمة التفاهة ما تزال تتردد على ألسنة المثقفين والعامة على حد سواء، لتُصدر أحكامًا قطعية بلا مراجعة أو تفكير، مستهدفة كل ما هو جديد ومختلف.
ومع الأسف، تحوّل ما طرحه الكاتب الكندي آلان دونو في نظام التفاهة—بعد تعويم فكرته الأساسية وتحويرها عن سياقها الأصلي—إلى سلاح جاهز في يد الجميع وضد الجميع. لم تعد الكلمة توصيفًا نقديًا لسطحية محتوى ما، بل غدت أداة لإسكات أي صوت يحاول الظهور أو تقديم رؤية جديدة. كلمة خفيفة في النطق، لكنها قادرة على هدم ثقة الشباب قبل أن يبدأوا أول خطوة.
والخطر الحقيقي لا يكمن في التفاهة ذاتها—فالبشر بطبعهم يميلون إلى الترفيه الذي يلامس مشاعرهم أكثر من المعرفة التي تتطلّب يقظة ذهنية وصبرًا وشجاعة في طرح الأسئلة—بل في صمت الموهوبين وخوفهم من التجربة. فالاستخدام العشوائي للكلمة كاتهام جاهز قد يدفع كثيرين إلى الانكفاء وإخفاء مواهبهم والتردد في الظهور العلني، خصوصًا أن البدايات غالبًا ما تكون متعثرة وغير ناضجة بطبيعتها. وهكذا نخسر طاقات كان يمكن أن تتفتح وتمنح المجتمع أفقًا أوسع.
إن محاصرة الأفكار الجديدة تحت راية، محاربة التفاهة، قد تقود—بلا قصد—إلى فراغ ثقافي ومعرفي يصعب ردمه مستقبلًا، في عالم أصبحت فيه المغامرة الفكرية شرطًا للابتكار ومصدرًا للقوة.
أما المثقفون، فمع أنهم يدركون أن نموذج الشخص الاستثنائي الملهم والمنقذ لم يعد قائمًا، وأن المعرفة اليوم شائعة ومتاحة ومنتشرة بين الجمهور بعد أن كانت حكرًا على نخبة محدودة، إلا أن بعضهم لا يزال يلجأ إلى إطلاق هذه المفردة المزعجة عند كل شاردة وواردة، مما يحرم الآخرين من مساحة آمنة ليقولوا رأيهم بثقة وجرأة.
* محمد جبران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى