
في ليلة مكتظة بضجيج الإغواء خرج من أطراف المدينة سيرا على الأقدام باتجاه المبنى الجديد لمقهى الحكاية. الطريق طويل ومقفر، وإذا ما شعر جسده الثقيل بالتعب تمثلت أمامه تلك المغنية الغجرية وهي ترمقه بنظراتها الودودة كلما مرت بجانبه. خلق صوتها العذب وابتسامتها رابطا ظل طوال الوقت ينبض حيا في داخله. وصل المقهى بعد عناء. وقف أمام المدخل للحظات، وبخطى واثقة دلف إلى الداخل، وجد نفسه في الحجرة العالية السقف ذاتها؛ هواء ثقيل برائحة القهوة المحترقة والدخان، وشباب يجلسون على مقاعد طويلة الأرجل يتحدثون بأصوات منخفضة. اقترب من النادل العجوز، ودون أن يتكلم حياه وأشار إلى الطاولة الأخيرة. لم يكن من الصعب التعرف عليها رغم مسافة الممرات وخفوت الإضاءة؛ امرأة جاوزت الثلاثين من عمرها بقليل ﺗﻀﻊ ﻋﻠﻰ ﻣﮭﻞ اﻟﻘﻄﻌﺔ اﻷﺧﯿﺮة ﻣﻦ الكعك ﻓﻲ ﻓﻤﮭﺎ وﻗﺪ راﺣﺖ ﻓﻲ ﺗﻔﻜﯿﺮﻋﻤﯿﻖ. عندما رأته قادما نهضت وظلت تنتظره واقفة، تأمل عن قرب وجهها الأبيض وشعرها القصير وهي تحملق في ملامحه الرثة. ضيقت عينيها حين أشار بيده نحو قلبه وأخذته الى باب يفضي إلى زقاق معتم ثم أغلقت الباب خلفه، كنت منزعجا في البداية وهو يرتطم بكتفي، لكنه كان صديقا مسليا ونحن في طريق العودة.