المقالات

الإدارة بين الثقة والتأثير من منظور قيادي حديث

في وقتنا الحالي الذي تتسارع فيه المتغيرات وتتعاظم فيه التحديات، لم تعد القيادة الإدارية محصورة في إدارة العمليات أو مراقبة الأداء، بل أصبحت ممارسة واعية تُعنى بقيادة الإنسان قبل إدارة المهمة. فنجاح المؤسسات اليوم يُقاس بقدرة قادتها على بناء بيئات عمل محفزة، قائمة على الثقة، وقادرة على استثمار الطاقات البشرية بأقصى كفاءة.

تعتمد الإدارة الحديثة على الانتقال من مفهوم “السيطرة” إلى مفهوم “التأثير”. فالقائد الناجح لا يفرض حضوره من خلال الصلاحيات فقط، بل يرسّخه عبر الرؤية الواضحة، والتواصل الفعّال، والقدرة على الإلهام. كما أشار بيتر دراكر، “القيادة هي رفع أهداف ومقاييس أداء الأفراد إلى مستوى أعلى، ورفع شخصيتهم إلى مستوى أعلى من خلال التحفيز”.

وفي هذا الإطار، يُنظر إلى الموظف بوصفه شريكًا استراتيجيًا في تحقيق الأهداف، لا مجرد منفذ للتعليمات. فحين يُدرك الفرد قيمة دوره، ويجد صوته مسموعًا، ويتلقى التقدير على جهده، يتحول تلقائيًا إلى عنصر فاعل ومبادر يسهم في تطوير العمل وتحسين نتائجه. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن الموظفين الذين يشعرون بالتمكين والاحترام هم أكثر احتمالاً للبقاء في الشركة بنسبة 65%.

وتعد العلاقة بين القائد وفريقه في الإدارة الحديثة على التواصل المفتوح والثقة المتبادلة. فالقائد الفعّال هو من يُحسن الإصغاء، ويشجع الحوار البنّاء، ويتعامل مع الاختلاف باعتباره مصدر قوة لا تهديدًا. كما قال ستيفن كوفي، “الثقة هي السرعة. كل شيء يتحرك بشكل أسرع عندما تثق بالناس”.

إن تمكين الأفراد لا يعني غياب الانضباط، بل يعني توزيعًا واعيًا للمسؤوليات مقرونًا بالمساءلة، وفتح المجال أمام المبادرات والأفكار الجديدة. وقد أثبتت التجارات أن المؤسسات التي تحتضن ثقافة التمكين والابتكار هي الأكثر قدرة على التكيف والاستمرارية في بيئات العمل المتغيرة. على سبيل المثال، شركة غوغل تطبق مبدأ “20% time” حيث يخصص الموظفون 20% من وقت عملهم لمشاريعهم الشخصية، مما أدى إلى ابتكار منتجات مثل Gmail وAdSense.

إن الإدارة الحديثة ليست منهج إداري فقط، إنما نهج قيادي متكامل يرتكز على الثقة، والتأثير، والاحترام المتبادل. وحين ينجح القائد في بناء هذه المنظومة، يصبح النجاح المؤسسي نتيجة طبيعية لتفاعل إنساني مثمر، يقوده قائد يُلهم فريقه قبل أن يوجّه، ويؤثّر قبل أن يأمر، ويصنع معهم مستقبل المؤسسة نحو افاق مستقبلية واعدة.

وفي ختام مقالنا هذا، نؤكد أن الإدارة الحديثة تقوم على بناء الثقة والتأثير كركيزتين أساسيتين لتحقيق النجاح المؤسسي. ولتحقيق ذلك، يجب على القادة خلق بيئات عمل محفزة ترتكز على الاحترام المتبادل، وتعزيز التواصل المفتوح والحوار البنّاء، إلى جانب تمكين الموظفين ودعمهم لتحقيق الأهداف المشتركة. كما أن القيادة الفعالة تتطلب القدوة والتأثير الإيجابي، مما يعزز روح الفريق ويضمن استدامة النجاح لكل من الموظف والمنظمة، إذ أن نجاح المنظمات ينبع من نجاح موظفيها. هنا يكمن سر النجاج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى