تفرض الحكمة السياسية أن تُدار المراحل الانتقالية بعقلٍ متزن ورؤية بعيدة، بعيدًا عن ردود الأفعال المتسرعة والخيارات الأحادية التي تُربك المشهد وتضاعف كلفة الصراع. وفي هذا السياق، جاءت التحركات العسكرية التي أقدم عليها المجلس الانتقالي الجنوبي في محافظتي حضرموت والمهرة لتكشف حجم التحدي القائم بين منطق الدولة ومتطلبات الاستقرار من جهة، ونزعات فرض الأمر الواقع من جهة أخرى.
وقد أوضحت المملكة العربية السعودية أن هذه التحركات جرت خارج إطار مجلس القيادة الرئاسي ودون تنسيق مع قيادة التحالف العربي، ما أسفر عن تصعيد غير مبرر أضرّ بمصالح الشعب اليمني، وألقى بظلاله السلبية على القضية الجنوبية نفسها، وأربك الجهود الإقليمية الرامية إلى تثبيت الأمن وتهيئة البيئة المناسبة لحل سياسي شامل.
وتُعد حضرموت، بما تمثله من ثقل تاريخي وجغرافي واجتماعي، إحدى ركائز التوازن في اليمن، وأي مساس بأمنها لا يُعد حدثًا موضعيًا أو عابرًا، بل يُشكّل تهديدًا مباشرًا للنسيج الوطني وفرص السلام. فهي ليست ساحة لتجريب موازين القوى، ولا ميدانًا لتصفية الحسابات السياسية، بل فضاءٌ يفترض أن يُصان بوصفه نموذجًا نسبيًا للاستقرار في بلد أنهكته الحروب والصراعات.
وتكمن خطورة هذه التحركات في دلالاتها السياسية أكثر من بعدها العسكري؛ إذ تعكس تغليب منطق الفصيل على منطق الدولة، وتقديم الحسابات الضيقة على المصلحة الوطنية الجامعة. كما أنها تُضعف الموقف الجنوبي ذاته حين يُقدَّم في صورة تصعيد أحادي يفتقر إلى الإجماع والتوافق، ويُفرغ القضية من بعدها الأخلاقي والحقوقي.
وفي مقابل هذا التصعيد، برز الدور السعودي، بالشراكة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، بوصفه مسعى عقلانيًا لاحتواء الموقف وإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي، عبر وضع ترتيبات واضحة تضمن عودة القوات إلى مواقعها السابقة، وتسليم المعسكرات لقوات «درع الوطن» والسلطات المحلية، وفق إجراءات منظمة وتحت إشراف التحالف، بما يحفظ الأمن ويحول دون اتساع رقعة التوتر.
وتؤكد المملكة، في هذا الإطار، أن القضية الجنوبية قضية عادلة ذات جذور تاريخية واجتماعية راسخة، غير أن عدالتها لا تتحقق بالتصعيد ولا بالانفراد بالقرار، بل بالحوار السياسي الشامل الذي يجمع مختلف المكونات اليمنية تحت سقف الدولة، ويؤسس لحل مستدام يقوم على التوافق لا على الإكراه.
وتبقى الحكمة في ختام هذا المشهد أن الأمن لا يُبنى بالقوة وحدها، ولا تُصان القضايا العادلة بالتمرد، بل بإعلاء صوت العقل وتغليب المصلحة العامة والعودة إلى منطق الدولة والحوار. فحضرموت، بما تمثله من عمق واستقرار، تستحق أن تكون جسرًا للسلام، لا ساحةً لصراع جديد يدفع ثمنه الجميع




