
قافلةٌ بل مدينةٌ
حسين محمد بافقيه
يخرج الحاجّ من مدينته أو بلدته أو قريته أو باديته فردًا أو في جماعة صغيرة، يحبس دموعه فعساه لم يعرف التّرحال والضرب في أرض الله الواسعة، وحين يأخذ مكانه من القافلة يختلف شعوره، لقد كان فردًا، وهو الآن عضو في جماعة عظيمة، لا يعرف منهم أحدًا، ولسانه مبايِنٌ للسانهم، إنْ لم يكن في اللغة، ففي اللهجة وجرس الكلام، وربما أصابه جفلٌ، وهو حديث عهد بالغربة والسفر، وربما داخَلَه السأم وقد فارق الأهل والولد ونزح عن الوطن، ولكنّها رحلة لا بُدَّ منها لبلوغ تلك الغاية، وإنه، لا شكَّ، فَرِح بأن فسح الله في عمره ليؤدّي ما فرضه الله عليه.
تذرع القافلة الطريق متَّئدةً مطمئنَّةً، تعْبر السهول والفيافي، تسامت حينًا الصحراء، وتقترب حينًا آخر من البحر، وكلّما أوغلت القافلة في سيرها يتَّصل الحاجّ برفقائه الجدد، يخرج من “فرديّته” ويصبح “عضوًا” في جماعة، وإنّه بدأ يألف القوم وبدأوا يألفونه، وما بين هذه المدينة وتلك القرية يعرف أنّ أهلها يُمِتُّون إليه بآصرة، إنَّ أولئك القوم يهشُّون إذا أقبلت القافلة، ولعلّهم يعلنون ذلك في فرح ممزوج بشيء من عذْب الغناء، يستقبلون به وفْد الله ويُشَيِّعونهم به، ولعلَّه جعل يستعيد ما رآه في أوّل النّهار وفي هزيع من الليل يحدِّث به رفقاءه إلى الحجّ الذين أصبحوا بفضل الله إخوةً له.
ما سبق ليس قصّة نِسْغها الخيال. فالرحلة إلى الحجّ كانت تستغرق أشهرًا حتّى يبلغ الحاجّ مكة المكرمة، وإنَّنا لنقفز قفزًا على التاريخ، حينما نمسك بالمصبّ ونفلت المنبع. نعم إنَّ الحاجّ يستحث المسير حتّى يبلغ غايته من رحلته، وإنَّ التاريخ قد يمرّ مرًّا سريعًا على تلك القافلة، ولكنّ تلك الرِّحلة التي تتراءى لعَيْن الخيال إنّما هي حياة كاملة، يقضي فيها الحاجّ لياليَ وأيَّامًا ويُمضي شهورًا حتى يحطّ رحاله في أمّ القرى، نحن نرى خاتمة الرِّحلة ولا نعبأ كثيرًا ببدئها ولا منتصفها، نرى النُّوق ضوامرَ، وقد نَهَكَها طول السُّرَى، ولا نكاد نعرف خطواتها الأولى، لم نُصِخْ إلى ذلك الحداء الذي يبعث فيها القوَّة والنَّشاط، فتنطلق فتِيَّةً، وكأنَّها تشتاق اشتياق الحاجّ إلى تلك الغاية التي خرج لها.
تَعْرض لنا جمهرة من كتب الرِّحلات الحجازيَّة معالم لتلك القوافل التي تَوَزَّعت على طول العالَم القديم وعَرْضه. إنَّ قافلة الحجّ مدينةٌ متنقِّلة لا أرض لها ولا مستقرّ، فيها كلّ ما في مدن الأرض، سكّانها يُعَدُّون بالألوف، فيهم الرِّجال والنِّساء والأطفال، ولهم أميرٌ يأتمرون بأمره، وحرس يصدُّون عنهم اللُّصوص وقطَّاع الطّريق، وهناك العَمَلة والأطبَّاء والطَّبَّاخون والجمَّالون… إنَّها القافلة المدينة، تراها مُصبحةً في السَّهل، وتراها مُمسيةً في الصّحراء، فيها الصَّحيح وفيها المريض، وفيها الشيخ وفيها الفتَى، يختلفون في نظام حياتهم، وفي مآكلهم ومشاربهم، وفي ألسنتهم، وفي ألوانهم وأزيائهم وقسمات وجوههم، ويتَّفقون في الغاية والهدف، وكأنَّهم “مشروع” أُمَّة، بل إنَّ قافلتهم منذ حُثَّت على السَّير أُمَّة صغيرة، انبعثت من فَجٍّ عميق لتَصُبَّ في محيط الأمَّة الأعظم في مكة المكرمة.[/JUSTIFY]
مع أنني لاأستسيغ التاريخي إلا أن الكتابة عن جانب المكان وبخاصة مثل ماكتبت عنه حسين
يدفع بالمخيلة الى استقراء لامتناه .سأحرص على متابعة ممتعة لأنني أعلم أن من كتبها ابتكر أساليب سحرية للانسجام وماهو تاريخي.أدبيا
مع أنني لاأستسيغ التاريخي إلا أن الكتابة عن جانب المكان وبخاصة مثل ماكتبت عنه حسين
يدفع بالمخيلة الى استقراء لامتناه .سأحرص على متابعة ممتعة لأنني أعلم أن من كتبها ابتكر أساليب سحرية للانسجام وماهو تاريخي.أدبيا