المحلية

حَجُّ الكُتُب

حَجُّ الكُتُب
حسين محمَّد بافقيه

[CENTER][IMG]https://pbs.twimg.com/media/BV7DCNmCIAAUChQ.jpg[/IMG][/CENTER] [JUSTIFY]هناك عوامل كثيرة يرجع إليها الفضل في وحدة الثَّقافة العربية الإسلامية، نستطيع أنْ نذكر أطرافًا منها، بعضها الدِّين أساسه، وبعضٌ آخَر مَرَدُّه اللُّغة التي حملت هذا الدِّين، وليس بشاقٍّ أن يسوق امرؤٌ عواملَ أخرى لها أثرها في وحدة الثَّقافة العربيَّة واستمرارها في التاريخ.

ولن يُعْيي أحدَنا تتبُّع ما يقوِّي هذا الزَّعم أو يُضعفه، فالتَّهدّي إلى هذه الوحدة الثَّقافيَّة بيِّنٌ في ما نرويه من شٍعر، وما نقرأه من كُتُب، وما نضربه من مثل، وكأنَّ هناك ذوقًا عامًّا نَصْدُر عنه، ولعلَّنا لا نسأل أنفسنا: كيف تكوَّن هذا الذَّوق، ومتى أصبح له علينا سلطان، غير أنَّنا نشاهد أثره فينا واضحًا في الأمثال التي يضربها الحضريّ والبدويّ والبلديّ، وفي أنماط من التَّقاليد، وفي جَرْس الأحرف ولَفْظ الكلمات.

كلّ ذلك واضحٌ بيِّنٌ، ونستطيع أن نفصِّل فيه، ونسوق عليه الشاهد والمثل، ومع ذلك فإنَّنا نستطيع أنْ نعدَّ الحجَّ عاملاً من عوامل تلك الوحدة الثَّقافية التي ندَّعيها لهذه الأُمَّة.

كنتُ قد قلتُ من قبْلُ: إنَّ الحجّ هو الحبل السُّرِّيّ لهذه الأمّة، وأحسب أنَّ هذه العبارة المجازيَّة إنْ تصدق على أمر، فليس سوى الثَّقافة. ودون أنْ نخوض في الثَّقافة ونطلب لها تعريفًا، فليس هذا الفصل من الكلام بحريصٍ على ذلك= فإنّني سآخذ من الثَّقافة ما تَعارَفَ أولو الاختصاص عليه، فالثَّقافة عندهم تتَّصِل بسببٍ بالعادات، والتَّقاليد، وضروب الحياة، وألوان المآكل والمشارب، وما ينتجه النَّاس من معرفةٍ، فيها ما هو فصيح، وفيها ما هو عامِّيّ.

الآن سأسلك إلى غايتي وهي أنَّ الحجَّ كوَّن وحدة ثقافيَّة، وسألتمس ذلك في كتب الرِّحلات الحجازيَّة وكتب المناسك وسأتوخَّاها في كتب التَّراجم والسِّيَر، وكتب البرامج والفهارس والأثبات، فعسى أن تُثبت تلكم الكتب هذا الزَّعم أو تهدمه من الأساس.

في كتب الرِّحلة إلى الحجّ تَطْغَى صورة الثَّقافة العالمة، وتهيمِن عند غير رحَّالة على مقاصدها الأخرى، فمِن ساعة تفصل القافلة عن البلد تُصبح الرِّحلة شأنًا آخر، إنَّنا بإزاء بيت حكمة متحرِّك، أو رواق مُشَرَع لا حدود له. ولسنا بسبيل تقصِّي هذه المسألة في كتب الرِّحلة إلى الحجّ، ومنها قدرٌ وافِر، وبحسْبنا أنْ نَظْهر، في عجالةٍ، على ما نَهَدَ إليه ابن رشيد الفهريّ السَّبتي، المتوفَّى سنة 721للهجرة، والحُضَيْكيّ السُّوسيّ، المتوفَّى سنة 1189 للهجرة، في رحلتيهما، وبين هذه الرِّحلة وتلك ما يزيد على أربعة قرون، فكلا الرَّجُلَين جعل الطَّريق إلى الحجّ سياحة دينيَّة وعلميَّة، وكلا الرَّجُلَين أثبت في كتابه أسماء العلماء والفقهاء والأدباء والمتصوِّفة الذين نزل في ساحتهم، وقرأ عليهم وأقرأَهم، وسمِع منهم وأسمعهم، وأجازوه وأجازهم.

في الرِّحلتين حشْدٌ كبير من الأسماء، وعلى طول ديار الإسلام وعرضها، ثَمَّة نخبة عالِمة مثقَّفة، صورتُها التي نستبينها صورةُ منتجي الثَّقافة والمعرفة، درْسًا وتأليفًا ومناظَرةً، وحيثما اطمأنَّتِ القافلة فَثَمَّ عالِم أو متعلِّم، وهي عادةً لا تمكث إلا يومًا أو يومين، فغايتها بلوغ البلد الحرام، لكنَّ ذلك لم يَحُلْ دون أن يَظْفَر أهل العِلم من الحجيج بِلُقْيا عالِم والاختلاف إلى حلقته، والفوز بإجازة تؤكِّد تصدُّره للتَّعليم أو التَّحديث أو الإفتاء، وربَّما كان القصد الاستكثار من الشّيوخ، وقراءة الكتب، وللقوم ولعٌ بإثبات من لقوا من الأساتذة والشّيوخ، وتكاد تقتصر تراجمهم على سرد الأساتذة والتَّلاميذ.
وفي كتب الرِّحلة إلى الحجّ، ونضمّ إليها الآن كتب المناسك وكتب التَّراجم والسِّيَر وكتب الفهارس والبرامج= صُورة للكتب التي يتداولها القوم فيما يقطعون به حياتهم في الدَّرْس والبحث، نقف فيها على الكتب التي عُدَّتْ أُصُولاً في العِلم، والمختصَرات التي يُزْجيها الأشياخ بين يدَيْ تلاميذهم، ونعرف حَظّ كلْ كتابٍ من النُّجح، ومقدار ما أصابه من التَّوفيق. ولن يحتاج الأمر بحثًا ولا تنقيبًا، فيكفيك أنْ تقرأ طَرَفًا من تلك الكتب لتعرف حياة الكتب وأعمارها، وموتها، كذلك. وباستطاعة القارئ، ولا أقول الباحث، أن يَحْدس ما ذاع في عصرٍ ما من العصور من مذهب في الفقه، أو طريقة في التَّصوُّف، أو أسلوب في الأدب، أو منهج في التَّفكير.

ولو أردْتُ أن أنبئك بأهمّ ما يشغل النُّخبة العالِمة في القرن الثَّامن، حيث ابن رشيد الفهريّ السَّبتيّ، أو القرن الثَّاني عشر، حيث الحُضَيْكيّ السُّوسيّ فلن يَتَعاصَى عليَّ الأمر، ففي الرِّحلتين المومأ إليهما قدرٌ صالح من ذلك، فأسماء الأشياخ، وعنوانات الكتب، والمساجد، والمعاهد في العصرين واضحةٌ بيِّنةٌ، وأستطيع أنْ أحدِّثك عن المذاهب الفقهيَّة ومقدار ما لها من أتباع، وما الكتب التي ثبتت قرنًا فقرنًا، فأنجبت شروحًا ومختصراتٍ وتكملاتٍ، وصار لها نسبٌ وحسبٌ وحاشيةٌ وأتباع، وما الكتب التي غالها الزَّمن وطواها النِّسيان.

وأخيرًا نستطيع كلَّما جُزْنا بلدًا، أو قطعْنا فيفاء، أن نُعِيد كلّ ما سِيق في هذا الفصل، إلى مقدار ما للحجّ من سهم في تكوين وحدة الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة ومدّها بما كفل استمرارها في التَّاريخ، فكما يرحل الحاجُّ في أرض الله الواسعة، الكتبُ، أيضًا، تحجّ من بلدٍ إلى بلد، وتعرف أنَّ الحجّ وقافلته وراء ضَرْبها في الأرض، وارتحالها في السَّهل والجبل، حتَّى تستقرَّ في صدور أهل القلم وعقولهم. [/JUSTIFY] َ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com