
تولَّدَ الحديث في هذا الموضوع من حديثي المتكرر عن العلاقة بين الشعر و(السَّرد)، ففي محاضرة لي بعنوان
(تنازع المكانة بين الشعر و السَّرد)
وهي موجودةٌ في قناتي على اليوتيوب)) فصّلت في طبيعة هذه العلاقة، وذكرت أنَّ (السَّرد) فنٌّ يقابل الشعر، وليس له علاقةٌ بـ(النَّثر) إلا من خلال جزئيةٍ يسيرةٍ، ففي كثيرٍمن الأدبيَّاتِ والبحوث الأكاديميةِ يعامل (السَّرد)على أنّه نثرٌ، وقد تنبّه (زكي مبارك) إلى هذه المعضلة – وهو يدرس (النّثر) في القرن الرابع الهجريّ–وأدرك أنَّ هناك نثراً فنيًاغير (النّثر) الذي تُكتب به العلوم والمعارف الأخرى، لكنَّ أدوات المعرفة في عصره لم توصله إلى اكتشاف مصطلح (السّرد)؛ الذي تأخر ظهوره في الدراسات النقدية العربية إلى بداية الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين.
ورغم ظهور مصطلح (السّرد) وشيوعه في الحقول الأكاديمية والثقافية إلَّا أنَّ مفهوم (السّرد) ظلَّ عند الأكثريَّة مطابقاً للنثر، فإذا قيل (السَّرد) حضر مصطلح (النثر) وكأنهما مترادفان.
والإشكاليّة تبدأ من التصور الخاطئ عن الشعر؛ إذ يقدَّم على أنَّه وزنٌ وإيقاعٌ، وليس صوراً مجازيَّةً، ورغم أهميَةِ الموسيقى في الشعر إلَّا أنها لا تصنع منه شعراً ما لم تتوافر فيه عناصر مهمةٌ أخرى كالخيال والمجاز والمنظور الذَّاتيّ، وما الإيقاع هنا إلا طربٌ جميلٌ، لكنَّ الشعر يكمن في الصُّورة البديعة،وليس في صوتها الموسيقيّ فحسب؛ لذلك ظهر الشعر الحرُّ ليعطي تصوُّراً مختلفاً للتجربة الشعرية، ثم ظهرت قصيدة النثر كشكلٍ يركز على مفهوم الصورة بعيداً عن الإيقاع.
و(السَّرد) مصطلحٌ دالٌّ على كلّ أشكال القصص،ولأنَّ التصور العامَّ يرى أنَّ لغة القصص محصورةٌ في الملفوظ والمكتوب نثراً، فقد أصبح النثر دالَّاً عليها في التراث النقدي النَّقد المعاصر، وحتَّى بعد ظهور مصطلح (السَّرد) مازالت فكرة التَّرادف بين (السَّرد) و(النَّثر) قائمةً.
ومفتاح حلّ هذه الإشكاليَّة يكمن في النّظر إلى لغة (السَّرد) ولغة (النثر)، ففي اللغة تكمن الإشكاليَّة ويمكن حلُّها، وعليه، فإنَّ هناك نقطتين أساسيتين تفصل بين (السَّرد) و(النَّثر):
أولاً: لغة (السَّرد) أكبر من لغة (النَّثر)، فلغة (السَّرد)نجدها في الملفوظ والمكتوب، والموزون كما في الشعر القصصيّ مثل قصيدة (وطاوي ثلاثٍ) للحطيئة، وفي المرئيّ كالسينما والمسرح والدراما التلفازية، فهذه كلها أشكالٌ سرديَّةُ تتعدَّد لغتها باختلاف وسائطها، لكنها تنتمي إلى عالم (السّرد)، فـ(السّرد) يشمل أجناسًا من خارج لغة (النثر)، وتصبح لغة (النثر)التي يُكتب بها بعض (السّرد) جزءاً من لغةٍ أكبر نراها في الصُّورة المرئية، وفي متون بعض القصائدبإيقاعاتها المختلفة، ومن ثمَّ فـ(السّرد) نوعٌ أدبيٌّ فنيُّ لغتهأكبر من لغة (النثر).
ثانياً: هناك فرقٌ جوهريٌّ آخر بين (السّرد) و(النثر)، فرغم وجود أشكالٍ سردية تكتب نثراً كالرّواية والقصة وغيرهما، إلَّا أنَّ نوعية(النثر) هنا تختلفعن النُّصوص النثرية المباشرة في خطابها ككتب التاريخ أو النقد، فـ(السَّرد) هنا يستخدم الكلام المنثور، لكنه يعتمد المجاز والإيحاء بالأفكار وليس خطاباً مباشراً ذا نزعةٍ عقلية.
من هنا فـ(السَّرد) فنٌّ كبيرٌ يقابل الشعر، ومن ثمّ فإنَّ أيَّ قراءةٍ له خارج فضاء النص تخرجه عن طبيعته الجماليَّة، ومنظومة شعريَّة الفنون عامَّةً.
د. حسن النعمي





