جدارية شاعر

حدّثتني مرآتي فقالت

لتعبُر الصّحراء كان من الضّروري أن تقطع مع الماضي.
دخلت غرفتها تراقب الأثاث، الملابس وتعاين أدقّ التفاصيل… لمحتْ فستانها المُعطّر بسَكر الليالي الخالية. كان يُحبّ السّهر مع النجوم ومداعبة الورد، وامتصاص طعم الشّهد بهذا الفستان المثير. مازالت تذكر من أين اشترته، وبأي عناية فائقة اختارته، وكيف عادت به إلى مخدعها لتروي مملكتها الصّغيرة….أرادت أن تسقيها حبّا وجنونا فكان اللّقاء مع الجحود.
كيف تنسى قطفه للورد، وهي تخفي صراخًا وغضبًا أسكنتهما قلبها، وألجمتهُما بترّهات والدتها عن الصّبر والجنّة الموعودةِ. لو أنّه فقط أخفى تِلك الصّور لوروده المقطوفة من بساتين أخرى، لكانت ليلتها أجمل. ولكنّه استكثر عليها السّراب والعيش مع الأحلام. تمنّت لو سقاها كذبًا وخداعًا في ليلتها تلك حتى لا تصطدم. سيكون ذلك أرحم من قطفه للورد بكل ذلك العنف !.

اقتربت من فستانها والصور تنهال على ذاكرتها كسِربٍ من الطيور المتدافعة على حبّات قمح متناثرة. سمفونيّة مُرعبة من الصور والأصوات ورائحة العطور. تذكّرت قهقهته ..همسه وترّهاته. فاضت مشاعرها، وانسكب الدّمع من عينيها، ولاحت ابتسامة غريبة على وجهها. وبقوّة الألم المنبثق من بين أضلعها مزّقت ما بين يديها إربًا، إربًا وكأنّها تنتقم من تلك اللّيالي المشؤومة رغم فستانها الورديّ، رغم عطرها الفرنسي ورغم الشّموع والموسيقى..

استيقظت من سكرتها على صوت قهقهة ساخرة. سكنت والدّهشة تغمرها. من يتسلّى بألمها؟ بمشكاة عمرها التي انطفأت؟
لم يكن الصّوتُ إلا صوتها والقهقهة إلاّ نَعْيا لأنوثة تُزفّ إلى المجهول !
“ابتسامات الدّموع وصراخ الصمت” كان هذا عنوان كتابها. أيُعقل أنْ مازالت حروفه تسكُنها إلى حدّ الساعة رغم أنّها مزقته ؟ . ألم تُغادر تلك الدّيار؟ ألم تُكسّر الكأس بما فيه؟ ألم تأخذْ عهدًا جديدًا مع الأمل والحياة؟

كيف للبُوم أن يلاحقها وقد تركت الصّحراء وسكنت الجِنان؟.
من السّهل أن تعيش الكِذبة ولكنّ قمّة الشّجاعة أن تقف في لحظة صدق لتتجرّد من أيّ قناع أو زيف، وتواجه الحقيقة بمرارتها، وما أصعب أن يكون اللقاء مع حقيقة أنفسنا.
تشجّعت. تركت الثّوب الممزّق على الأرض، وتوجّهت بخطوات مُثقلة نحو مرآتها.
– أخبريني يا مرآتي…حدّثيني…لعلّ الشّروق قريب.
– عزيزتي…لن يكون لك شروق حتى تحتضني الغروب بحبّ وتسامح، حتى تُدركي أنّ البُوم لا يُلاحقكِ. ألا تدركين يا وردة عبقة أنّه يسكُنكِ. موطنه بين أضلعك. لا تُحاولي طرْده. لا تحاولي إسكاته فبِقتْلِهِ موْتكِ، ولكن استمعي إليه، وتصالحي معه وأسقيهِ حُبّا حتى يغْدو نورسًا جميلًا يُحلّق بك عاليًّا فترحلا معا نحو الشّروق..”
وقعت عليها كلمات المرآة كالصّاعقة. كان لا بدّ أن تواجه ذاتها أوّلا قبل أن تواجه الآخر. كان لابدّ أن تواجه هذه المرأة التي تسكنها وتتخبّط داخلها. فرحلتها ليست نحو أرض جديدة بقدر ما هي رحلة منها وإليها.

—————-
• أديبة تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com