صيّاد الغزال

كان شابا سمحا ،في مقتبل العمر، طويل القامة، عريض الكتفين، أسود العينين ، حسن الوجه. يحبّ الرياضة ويعشق الصّيد. تعرّف إليها صدفة في المنطقة السّياحية من المدينة.وكان كثير الحديث عن مغامراته كصياد ماهر معروف.
هو حسب زعمه لا تخيفه الحيوانات البريّة ولا التوغّل وحيدا في الغابات الكثيفة . كانت عيناها الحالمتان تغمرهما السّعادة وهي تتخيّله فارسا بملابس شبه عسكرية وبندقيّته على كتفيه متهيئا للتصويب . كان يتحدّث إليها بكلّ اعتزاز وكانت تنصت إليه بكل حواسّها خاصة ، حين يكون موضوع حديثه المخاطر التي تعرّض إليها .

حبّه للصيد لم يجعل منه رجلا جافّ المشاعر أو صعب المراس فقد كان رومنسيا. يُهديها الورد و يغمرها بكلماته العذبة . كان يُنقي العباراتالتي تطربها والتي تدخل في باب الغزل ثم يلقيها إليها تلميحا فيثير أنوثتها فتحلق معها عاليا.

أحبّته بصدق ،إذ معه ارتوت من حنان الأب وعطف الأخ وبجانبه اعتقدت أنها احتمت بشجاعة الفارس ونبله .و معه تصورت أنها ستكون بألف خير .هي محظوظة بحبّه …لقد استجاب الله لدعاء أمّها حين كانت تقول : اللهم ارزق ابنتي بزوج صالح يحبها . يضعها بين عينيه ” .
سمعت من بعضهم أحاديث عن مزاجه الصّعب وأفكاره المتشدّدة لكنها لم تبال .فهم لا يعرفونه كما تعرفه و لا يحبّونه كما تحبّه.

لم تدم فترة الخطوبة سوى بضعة أشهر. وزفّت رُقيّة في ليلة قمريّة إلى فارس أحلامها و ناسج أوهامها !.
مضت أيامها الأولى متشابهة . سمر، وحبّ ، ونوم كامل النّهار. كانت تعيش اللّيلة بألف ليلة: دعابة وضحك وفاكهة أدب .
يستيقظان في ساعة متأخّرة من النّهار فيقبّل يديها قائلا: ” لا تطبخِي. لا أريدكِ أن تتعبِي. سأحضر الطّعام جاهزا من أشهر المطاعم ” . فتجلس لتتزيّنَ منتظرة الحبيب. هكذا مرّ أوّل أسبوعيْن من الزواج .
لم تعرف رائحة طهو الطّعام في مطبخها إلا حين عاد زوجها إلى العمل . لقد اعتبرت نفسها من أكثر النساء حظا في اختيار الزوج .

تتابعت الأيام فأحسّت بالملل. بدأت تضيق بالمنزل، وبجدرانه التي بدت أكثر سمكا و سقفه الذي بدا وكأنه يدنو من الأرضية حتى خافت أن يطبق عليها.
ملّت النظر إلى المارّة من خلال قاعة الجلوس . صار البيت موحشا بهذا الكم الهائل من الصّمت .يغادرها زوجها إلى العمل منذ ساعات الفجر الأولى و لا يعود إلا وقد أذّن لصلاة المغرب .
تستقبله بشغف و صبر فيقبّلها عند عتبة الباب و يسرع إلى تغيير ملابسه والتهام طعامه ، ثم يتمدّد أمام التلفاز. يفعل ذلك كلّ ليلة ، مشاهدا نفس البرامج المتخصّصة في بثّ أفلام مصوّرة حول عالم الحيوانات المفترسة .
هو شغوف بمشاهدة هذه الحيوانات التي تُطارد فرائسها بكلّ وحشيّة . يشعر بنشوة عارمة ، يهتاج ، يصفّق بحرارة أحيانا، حين ينقضّ الحيوان المطارد على ضحيّته ويخنقها.
في تلك اللّحظة يرْمقها بنظرات مُلتهبة ويتقدّم نحوها بخطوات سريعة غير مُبال بما تفعله ولا بما يجول في خاطرها لينقض عليها كما انقضّ الأسدُ على غزالته وأثبت فيها مخالبه . الكل واحد .
يُنهي الأسد لا بل الزوج وليمته وهو معتدّ بنفسه فخور بما أتى مزهوّ بفحولته كما الطاووس. أما هي فيعتريها شعور غريب ، مبهم . حيث أنّها لا تكاد تُصدّق كيف وقعت فريسة بين يدي صيّادها ولا كيف امتصّ رحيقها ، ولا كيف مرّ الأمر أصلا . يتملّكها إحساس وجودي ضاغط فترى نفسها كأوراق الخريف المبعثرة هنا وهناك وفي كلّ مكان .

حاولت دون جدوى أن تجعله يتخلّى عن مشاهدة هذا النوع من البرامج بتعلة أنّها لا تطيق مشاهدة الدّم . حاولت أن تبيّن له أنّ للقتل طقوسا.كأنيريح ذبيحته مثلا و لا يخيفها و كأن يرحمها في لحظة ضعفها. حاولت وحاولت…لكنه عجز أن يقرأ بين السطور و أن يفهم ما استحْيت أن تقوله علنًا.
ومرّ عليها شهر وهي في بيت زوجها ،بعيدة عن مدينتها. ضاق صدرها بوحدتها تجالس الأثاث والصمت . صارت مزاجية، تستشيط غضبا لأتفه الأسباب ولا يزورها النوم إلا لماما .
شوقها إلى عائلتها يحزنها واصطياد الغزال كلّ ليلة بتلك الطريقة يؤرقها والصّمت القاتل طوال النّهار يمزّقها.
وفارسها لا يبالي. يختار ملابسه كلّ صباح بعناية مبالغ فيها. يصفّف شعره ويعيد تصفيفه مرّات ومرّات. يغادر و قد فاحت منهومن الغرفة رائحة العطر.
قبل خروجه يلقي نظرة على المرآة . يشعر بالرضا . هو مزهوّ بنفسه ، راض عنها .لقد تزيّن كمن يستعد لملاقاة خليلته بعد طول غياب .
ملّت وعوده الكاذبة بأن يأخذها لزيارة أهلها أو أن يخرجا معا في نزهة يوم السّبت.
استغربت من عدم خروجه إلى الصيد وقد مرت أيام وأيام .؟ . الم يقل لها إنه شغوف بالصيد ؟ وبالغابات والبندقية ؟ . بدأ يعتريها الشكّ .بحثت في أرجاء البيت عن ملابس الصّيد التي حدّثها عنها، عنبندقيته ، عن جرابه ، عن أيّ شيء يشير إلى الصّيد من قريب أو من بعيد لكن دون جدوى.

قالت في نفسها: ” قد تكون هذه الأشياء في بيت والديه سأذهب لزيارتهم وأفاجئه بها عند عودته من العمل . لاشكّ أنّه سيفرح كثيرا فقد اشتاق إلى الصيد والمغامرات .
وقفت أمام دولاب ملابسها لتختار ما ترتدي من كساها . أحسّت بفرح شديد و هي تضع زينتها و تتأهّب للخروج .فبعد قليل ستستنشق رائحة هذه المدينة وتكتشف طرقاتها ومغازاتها وتعانق نظرات أهلهاو ابتساماتهم.
آه . أخيرا سيخرج الفراش ويحلّق في السّماء ! .
دُهشت أخته الكبرى عندما فتحت لها الباب.
-” أهلا رُقيّة…مرحبا…تفضلي..
– أهلا .فاجأتكم . أليس كذلك؟.
– بصراحة…نعم…مفاجأة لم نتوقّعها.. .لم يخبرنا فارس عن قدومك..
– هو لا يعرف أنني سآتي لزيارتكم لقدقرّرت دون الرجوع إليه . . مللت الجلوس في البيت وحيدة و اشتقت للأهل .
– و نحن أيضا اشتقنا لك يا عروس. لكن، أتمنى أن لا يغضب فارس.. لا نريد لك إلّا الهناء .
همّت أخته بإحضار بعض المشروبات عندما استوقفتها رُقية مُستدركة بصوت خفيض :” و لمَ سيغضب مني؟ .

-آه يا رُقيّة .أنت لاتعلمين أفكاره و جنونه . أنت حقّا صبورة. لكنني أظن أنّ الصراحة والوضوح هما سرّ نجاح هذا الزواج.
– نعم. الحمد لله.لقد وعدني أن نزور عائلتي هذا الأسبوع .
– فارس، وعدك؟ .
– لِمَ كلّ هذه الدّهشة و؟ . وقد نذهب إلى المنطقة السياحيّة أيضا.

ظلّت الأخت واقفة تنظر إلى رُقيّة والدّهشة تطبع وجهها ثم ابتسمت و قالت:
– لا شكّ أنّه صار يعشقك بجنون…كيف استطعت أن تغيريه بهذه السّرعة؟…كنا نخوض في نقاشات طويلة فيتمسّك برأيه قائلا” المرأة التي من بيت والدها إلى بيت زوجها هي إلى جنّتها…”
– نعم الزوجة لزوجها…و لكن لها عائلة و أصدقاء..
-ها ، ها.هذا كلام فارس؟.
– هذا كلامي..
– آه نعم…لكنك يا عزيزتي تعلمين أن الأمر في النهاية لا يكون إلا كما يريده فارس. هذا سبب طلاقه الأوّل و الثاني.
– ماذا؟.أيّطلاق؟.كيف؟

حطّ على الغرفة صمت ثقيل. احمرّ وجه رّقيّة وواصلت أخته التفوّه بكلمات ليس لها معنى عن الطقس و الجيران وحال البلاد.
وقفت العروس و قد سكنها الضياع . تقدّمت قليلا ثم قالت:
-يجب أن أذهب. أحضري لي ملابس الصّيد و البندقيّة.
– أيّ ملابس و أيّ بندقية؟ .
– ملابس صيد فارس .
– ما بكِ يا رُقيّة؟… و منذ متى يصطاد فارس؟.
– لا…لا…لا شيء..

هرولت العروس نحو باب الخروج . خرجت و قد اسودّت سماؤها وأمطرت أحزانا و ألما. ظلّت تمشي في الطرقات على غير هدى في مدينة لا تعرف منها غير كذب صياد . أحسّت بالغربة و الانكسار. إلى أين ستذهب و هي لا تملك فِلسا واحدا فهو لا يعطيها نقودا بتعلّة أنّه ينفق على البيت و يشتري لها كل ما ترغب فيه . أين ستأوي و لمن ستذهب وهي لا تعرف أحدا هنا؟.

رفعت عينيْها إلى السّماء، فلمحت صومعة الجامع القريب . أسرعت نحو ه .دخلت . هناك أحسّت بشيء من السّكينة وأعاد لها عطر المسجد هدوءها. اتكأت على إحدى سواريه . رنّ هاتفها.
-رقيّة ….السلام عليكم…كيف حالك يا ابنتي..
أجهشت بالبكاء و تقطّع صوتها فلم يدرك الوالد إلا بضع كلمات: “أ…بي…تعا…ل….أرجوك….”

—————
• أديبة تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com