جدارية شاعر

ابحار بلا أشرعة

ها أنّي أعود صاغرةً لأكتب إليك من جديد بعد أن مزّقتُ جميع أوراقي وأحرقت بقايا أقلامي .عدتُ لأجلس إلى محراب البوح لعلّ الكلمات تعيد رسم الأمنيات و ينبجس المعنى من اشلاء الذكريات. ها أنّي هنا من جديد. في ركن من الذاكرة أحنو على بعضي و أغدق عليها من وله الأيّام و سكون الصّمت الصّاخب في أعماقي. فهل سيُعيد ذلك شيئا من أيّامي؟

أنا لن أعيد خيط الدّخان الفار من ثقب الزّمان، لكنّني ربّما سأتمكّن من نحت طيْفه على جدران السّراب. يقرأُ المارّون من خلاله طلاسم الوجع المسكوب بألوان القزح على طيف الانسانيّة. لا أبحث ،سيّدي، إلّا على ذلك الخيط الرّفيع…ذلك اللّون الهارب بين اللّيل و النّهار ، بين الحدود، بين متاهات التناقض والضّياع وأحجيات الجاثمين على جثث الحقائق المزعومة .ألا ترى أنّني أركض بلا خريطة و لا بوصلة ،في ليل كفيف وقد هجرته قناديل السّهر .أبحث عن ثقب في الفراغ .أبحث عنّي لأجدك بين طيّات الألم و ثنايا التمنّي.

أخبرني البُوم اليوم عن جارتنا. قيل إنّها ابحرت بلا رجعة. اغبِطها على قرارها فلا شيء يوقظ السعادة من سباتها هنا غير التفكير في الابحار. فجأة تدبّ فيك الحياة من جديد. تغازلك شرايين الغواية تلهب فيك رجاءً طال انتظاره .تنظر إلى الأفق يغمرك كألوان الفجر: الانتحار شهيّ، شهيّ كالإبحار ، كالولادة الأولى للمعنى.

أتذكر تلك الأيّام؟ كنت أجلس إليك أحدّثك عن لقاءنا المرتقب .أرصّع اللحظة تلو اللّحظة. أنسج الشّوق إليك وأحفر عميقا في هوّة اللامبالاة. لم يعد عالمهم يشدّني . تمزّقت جميع الرسائل ونُسفت بيني وبينهم جسور الحياة. كنتُ أقف ههنا فيك أو ربّما كنت أراك فيّ. كنا معا و مازلنا. لم يكن الموت الا ابحارا و لم يكن يرتدي برنسا أسود، بل كان فارسا شهيّا كأحلام الطفولة الوليدة من رحم البراءة. كان جسرا منّي إليّ. وفيّ، لا يوجد إلا شهوة لقائك السّرمديّ فكيف يؤجّجون نارا لم توجد يوما إلا في عيون الحاقدين. مَن استكثروا على الفراش نور اليقين. كان يقيني جاثما على أنفاس أحلامي. سلبني قطرات الندى التي ربّما استطاعت بغفلة من حرّاس الليل أن تعيد انتشال أشلائي.

اليوم سمعتهم يسخرون من جارتنا. لو أنّهم يدركون أنّ الوجد قد سكنها و أن عالمهم هو من حمل سفينتها إلى الابحار الشهيّ. لو أنّهم يقفون على حافة الهاوية و ينظرون من ثقب الأحاسيس الثائرة، لو أنّهم يعتنقون طقوس الصّمت ، لو أنّهم يمشون الهُوينا على سيف الأرواح الحائرة و يرون كم هي شهيّة تلك اليد التي تعيد رسمك في عوالم أخرى. تلك اليد، يدك أنت سيّدي. داعبتْ خصلات شعري المرميّ على انكسارات ظلالي. كانت تمسح دموع ورودي المبعثرة . كانت تعيد رسم المسافات وتكتبني قصائد ستنشر يوما لتحيي الأيام الحزينة. كم كان يحلو لهم قطف ابتساماتي كلّما أينعت في غفلة منهم حديقتي الصّغيرة.

فأخبرهم سيّدي أنّك ارسلت أجنحة من عبق الانتظار لترسي عليها سفينة جارتنا الجميلة وأنّ الانتحار ليس سوى ابحار سفينته من نسائم الروح. تشقّ غمامات الأمنيات لعالم سكن الخيال و ما بين الضّلوع. سفينة ترفض الموانئ الصغيرة و البحارة المرتعشة أيديهم. سفينة لا ترضى إلا ببحرٍ من سماء. أخبرهم سيّدي أن ابحارها كان قرارهم وأنّه من صنع أيديهم.
أسمع صمتك جيدا وأرى نظراتك في غيابك وأنت حاضر في خلوتنا. أدرك أنّك تفهم ما بين كلماتي .أخبرني، سيّدي، كيف أجعل اللغة تفتح لي بابها لأغنم من سحرها و أُبحر أنا أيضا كراقص على نارٍ أعيد ميلاد الموتِ من الحياة.
————————————————-
من كتاب ” رسائل تانيت المحرّمة”
* اديبة تونسية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. إبداع لدرجة الإمتاع
    ما اجمل الحرف عندما يعبر عن مكنون الفؤاد حيث يشكل عقداً فريداً مرصعاً بالجواهر الحسان واللؤلؤ والمرجان
    دام هذا الألق ودام هذا العطاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com