منتدى القصة

كتابة القصة .. ما بين رهبة الكتابة وبراثن الغش!

– أستاذة، لا أعرف كيف أكتب القصة!
لم يكن هذا ردًّا مرَّ علي مرور الكرام رغم تقليديته، وتكرار سماعه في أروقة صفوف دروس الكتابة في مادة “لغتي الجميلة”، وخاصةً في المرحلة الابتدائية. إلا أن المختلف هذه المرة هو أن هذا السؤال جاءني من احدى الطالبات ذوات المستوى المرتفع -نسبيا- في المهارات اللغوية، ولم يسبق أن فاجأتني بمثل هذا السؤال.
طالبة الصف الرابع الابتدائي تلك جعلتني أتوقف أمام صراحتها، وشجاعتها في التعبير عما يدور في عقلها الصغير، الذي طرأ عليها فور قراءتها لسؤال الواجب. وكان السؤال يطلب منها كتابة قصة قصيرة من إنشائها بعد أن درست عناصر القصة، وطلب منها تطبيق ما تعلمته من الدرس -ببساطة- عبر كتابة قصةٍ من إنشائها، لكن صغيرتي لم يرق لها أن يُطلب منها هذا الطلب -الضخم من وجهة نظرها- ببساطة “اكتبي قصة قصيرة من إنشائك”!
تلك الصغيرة أدركت أن هناك فجوةٌ ما بين معرفة بعض المعلومات نحو: تتكون القصة من شخصيات، ومكانٍ وزمان، وعقدةٌ (أو مشكلة) وحل، وما بين كتابة قصةٍ كاملة. والأدهى والأمرُّ، هو أن السؤال حدد أن تكون تلك القصة “المُعْضِلة” التي ستكتبها من إنشائها؛ مما يعني استبعاد المساعدة الخارجية سواءً عن طريق الأهل، أو عن طريق البحث في اليوتيوب، أو الاتصال بصديق الجميع موقع “…….” غير الرسمي، الذي يقدم الإجابات النموذجية لكافة المناهج الدراسية، مما يجعله خيارًا متاحًا لكل طالبٍ لا يريد أن يكلف نفسع عناء التفكير في الحل، بل أن النسخ غير الواعي بعد خيارًا أفضل بالنسبة له.
تلك الصغيرة تحاول تجنُّب الخيار السهل بالنقر على ارتباط الموقع، والحصول على قصةٍ ستتكرر مرارًا، وربما لسنوات -ما لم تتغير المناهج في العام التالي- بشكل ممل حتى للمعلم نفسه الذي سيصحح هذه القصة لأكثر من طالب، وكأن هؤلاء الطلاب والطالبات قد تشاركوا (العقلَ المؤلِّفَ نفسه)، فهي ذات الأفكار، وذات طريقة الحل، وذات الإجابات لجميع الأسئلة، حتى تلك التي تبدأ بعبِّر عن رأيك!
ولو أسمينا تلك الفئة من الطلبة مجازيًّا “آل ……” تيمنًا باسم ذلك الموقع الذي يوفر الغش بالمجان، فإن هناك فئة ثالثة تختلف عن فئة طالبتي المتسائلة، وعن فئة الموقع الإلكتروني ذي الأسئلة المحلولة. تلك الفئة هي فئة الأقلام المبدعة بشكل غير عادي يفوق المستوى. تلك التي تبدع بتوقيع أولياء الأمور.
لا زلت أتذكر جيدًّا قصة طالبة الصف الخامس الابتدائي في إحدى الدفعات التي درستها، التي أحضرت لي قصةً جعلتني أحملق في الورق ببلاهة، وأنا أشك في تقييمي السابق للطالبة التي أدرسها لعامين متتاليين، وأنا أعلم أنها تواجه صعوبات في الكتابة والقراءة، وأقارنها بالقصة التي أمامي، مما جعلني أعلم منطقيا أنها ليست من كتبت القصة.
ثم ولأقطع الشك باليقين؛ طلبت الجلوس مع تلك الطالبة على انفراد، ثم طلبت منها أن تقرأ القصة المذهلة لي، لتنظر إلي الطالبة في خجل، ثم تخبرني أنها لم تكتب القصة، بل أن “ماما العزيزة” أخبرتها أن تنام، وهي -أي الأم- من ستقوم بالواجب وزيادة.
أشكر هذه الأم المبدعة التي أبهرتني بقدرة ابنتها على وصف المشاعر التي أحست بها وهي علقة في رحم أمها، والذكريات التي بدأت تنمو معها إلى أن أصبحت في الصف الخامس الابتدائي، بدقة وصفية، ومهارة نحوية وإملائية تفوق قدرات الطالبات الموهوبات في الكتابة اللاتي يجدن الكتابة الإبداعية بمستوى لا تتقنه الطالبات في مثل سنهن الصغيرة، وليست قدرات ابنتها فقط.
ولا شكرًا -مع الأسف- لهذه الأمر التي حرمت ابنتها لذة التجربة، وشرف المحاولة، التي قد تطلق مارد الكتابة في داخلها، وتمكنها من التعبير عما لا تجيده بالكلام المباشر، أو ربما لتتعلم كيف تكتب، وكيف تصيغ عبارات مكتملة بتراكيب لغوية، وإملاءٍ سليم، مرة بعد مرة، كلما أخطأت ثم قومت كتابتها بعد التغذية الراجعة المناسبة.
والغريب في الأمر، أنني لم أستطع تجاوز هذه الفكرة، وبقيت في عقلي إلى أن زرت إحدى المدارس الابتدائية في ولاية ديلاوير الأمريكية، في فصل الصف الأول تحديدًا. إذ أن فترة المعايشة التي قضيتها في زيارة مدارس متعددة هناك؛ تضمنت هذه الزيارة التي أجابت عن سؤالٍ سألته لنفسي بعد سؤال طالبة الصف الرابع، وهو “كيف سأعلمها كتابة القصة؟”
خرجتُ من ذلك الفصل وأنا أحمل معي عدد لا بأس به من القصص القصيرة التي كتبها الطلبة، وأعلى تلك القصص رسمٌ طفولي لي ولزميلاتي اللاتي رافقنني في هذه الزيارة، بشكلٍ أبهرنا وأضحكنا في الآن نفسه. إذ دارت تلك القصص حدث اليوم المميز الذي تضمن زيارة سيدات من دولة أخرى أبعد من كاليفورنيا، في أربعة إلى خمسة أسطر ونصف في أطول قصة، وأسلوبٍ مختلف في الصياغة وإن تشابهت الأفكار.
والمضحك هو كيف أبدع الطلبة في الرسم “الكاركاتوري” لأشكالنا كما رأونا. فعلى سبيل المثال؛ رسمت إحدى الطالبات رسمًا يمثلني؛ إذ رسمت فستان أميرةٍ من أميرات ديزني، لكنها رسمت لي حجابًا ونظارةً طبية بذات لون الحجاب والنظارة التي ارتديتها، لكن عبائتي استحالت فستان سندريلا وردي اللون!
تلك القصص المبدعة التي كتبتها الأنامل الصغيرة، جعلتني أعزم على الإجابة عن سؤال طالبة الصف الرابع في ذلك العام، والصف السادس في هذا العام عبر إنشاء “نادي القصة الافتراضي” في المدرسة؛ كمبادرةٍ لتشجيع طالبات الصفوف العليا على كتابة القصص خارج إطار الحصص الدراسية، وعبر تطبيقات “مايكروسوفت” المألوفة لدى الطالبات بعد تدشين منصة “مدرستي”.
طالبتي الآن تكتب قصصًا قصيرة متنوعة، وتحول بعض قصصها إلى قصص مرسومة إما بيدها، أو باستخدام بعض التطبيقات، بعد أن طبقنا بعض الاستراتيجيات التي شاهدت كيف يطبقها طلبة الصف الأول (5-6) أعوام في أمريكا بسهولة، فلماذا لا تتطبقها طالباتي (9-12) عامًا بالسلاسة والسهولة نفسها!
وبالنهاية، عزيزي المربي -قبل أن تكون معلمًا- تبقى مشكلة التعثر في الكتابة مشكلةً عالمية وليست حصرًا على مجتمع دون غيره، ولكنها رغم شيوعها فهي ليست مستحيلة الحل. ناقش طلابك عزيزي المعلم، وحدد مخاوفهم، ولا تقبل بالغش أيا كانت وسائله، وغيِّر في استراتيجيات تدريسك -حتى وإن خالفت روتينك المعتاد- والأهم من ذلك؛ امنح طلابك الأمان ليخطئوا، وتقبل حيرتهم، وقدم توجيهاتك بشكل مختلف؛ فالعقول ليست سواسية. وبعد ذلك كله، أبهر نفسك بما تستطيع تلك العقول الصغيرة أن تبدعه، وشاركهم لذة الإنجاز النابع من “إنشائهم”!

———————-
معلمة اللغة العربية

إدارة التعليم بمحافظة المجمعة
27 / 7 / 1442هـ

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. مقال فيه كمية من التحفيز والتفاؤل
    أبناؤنا وبناتنا مبدعون عندما يجدوا من يحتويهم

  2. مقال رائع روعة أنامل مؤلفة سلمت الأنامل وأنيرت العقول بفضل الله وكرمه نفع الله بك وبعلمك

  3. مقال جميل كجمال معلمة اللغه العربية المتجددة دوما ومالمسته من حبها لمشاركة طالبتها وحثهن على الكتابة واطلاق مايجول في داخلهن والتعبير عن ذلك وتشجيعهن في ذلك بااسمى وأرقى الكلمات أما بالنسبة لكتابة القصة تتفاوت الطالبات في قدرتهن على الكتابة فهناك من خيالها واسع ولديها الكم اللغوي للكتابة
    وهناك من أفقها ضيق بحكم عدم الاطلاع وأحيانا تكون من المعلم الذي لايحاور طلابه ويحثهم على الاطلاع والكتابويكتفي بطرح المادة العلمية ودروس اللغه العربية بلا روح لاتمام المنهج فقط .

  4. إبنتي الغاليه “أميرة” شكرا لكلماتك الراقية وتشجيعك المستمر لأبناء الجيل الذي ابتعد كثيرًا عن أصول الكتابة الروائية وتعامل في كل أموره بوسائل التواصل الاجتماعي والاعلام التقني لأنه مرض العصر ومع ذلك الحياة ستستمر ولكن تبقين أيقونة فرح بإبتسامتك المشرقه أبقي كما أنتي، وفقك الله لما تتمنين وتحبين

  5. امنح طلابك الأمان ليخطئوا، وتقبل حيرتهم، وقدم توجيهاتك بشكل مختلف؛ فالعقول ليست سواسية.
    -قاعدة تربوية لا تصدر إلا عن مربية مبدعة فاضلة جعلت من الميدان ساحة لتفتق المواهب وتنمية القدرات وتألق الإبداع لتخلق من العقول شعلة متقدة تضيء سماء المتعلمين ليحلقوا في فضاءات أعلى وأرحب.
    شكرا لهذا الحس المنبثق عن شعور عارم بقيمة المعلم/ة في وضع بصمة تتلألأ في ذات المبدع ليكون ذا شأن في مجتمعه ولخدمة وطنه.

  6. بوركت جهودك معلمة رائعة ومتألقة .. حريصة دوما على النفع بما تعلمته .. جعله الله في موازين حسناتك.
    هنيئا لطالباتك توظيف مهارة الكتابة الابداعية بين صفوفك … وبخاصة حينما تأتي من باحثة سابقة في ذات التخصص -الكتابة- مدعومة بخبرة عملية من ثقافة أخرى .. والأهم من ذلك مراقبة الاحتياج في السلك التعليمي ،،، مايعطي المقالة قيمة مميزة تفي باكتفاء لحل مشكلة ضعف الكتابة لدى الصفوف الأبتدائية …
    دمتي شخص يغرس ..
    نفع الله بغراسك يا أميرة

  7. (إمنح طلابك الأمان )
    الشيء الذي كُنّا نفتقده ..

    بارك لك أميرة في علمك وعملك ..
    أنت رائعة بكل ما تحمله هذه الكلمة
    من أجمل ما يعطي المرء الإخلاص في عمله
    ومنح الثقة والأمان والإحترام للآخرين
    وبالأخص في سنوات التعليم..

    لذة النجاح لن تكون في أن تصل وتُصبِح معلماً فقط !!
    بل لذته عندما ترى من رسمت لهم طريق النجاح .
    .وساروا في خُطاه ..

  8. أميرة اللغة العربية وصديقتي الرائعة !
    بداية أفخر بقراءة مقال جميل يعكس عقلية نيرة محبة للتغيير والتطوير ونشر المعارف التي لديها لمن حولها
    لاسيما طالباتها …. اختصرتي هنا المعاناه التي كنا نراها في صفوف المدرسة وخاصة بالمراحل الاولى المبكرة حيث كان الاعتماد الكلي في لغة التعبير عن الأم او مساعدة أحد غير الطالبة .. وأراك قد سلكتي الطريق الصواب في اختيارك لنادي القراءة الافتراضي حيث قمتي بتطبيق ما استفدتيه من زيارات مدارس أمريكا بأسلوب رائع شجع طالباتك على الكتابة بأريحية وإطلاق العنان لخيالاتهم الصغيرة وسردها كقصص ممتعة بدون مخاوف او تقيد .. هنيئا لطالباتك معلمة مثلك ليس لإبداعاتها حدود … فعلا هن محظوظات وفقك الله دوما وإلى المزيد من هذا التميز !!

  9. ماشاء الله الكلمات الصراحة هادفة وجميلة وممتعة .. فيها عنصر التشويق وطرح المشكلة مع مناقشة الحلول المقترحة والكثيرة لحلِّها .. موضوع القصة جميل جدًا واختيار موفَّق يتماشى مع مضمونها.. ويعالج فعلًا قصور بعض الطالبات في مدارسنا بحيث لا تعرف الطالبة كيف تبدأ كتابة قصة من خيالها أو من واقعها !!
    وأيضًا .. التركيز على دور المربي في مناقشة الطلاب مهم جدًا حين تعترضهم بعض الصعوبات في التعلّم ،، ومساعدتهم في الاعتماد على مهارتهم دون الاستعانة بالآخرين يزيد ثقتهم بأنفسهم ..
    الاستفادة من تجارب الآخرين في طرق التعليم في الدول الأخرى مهم جدًا للتطوير في مجال التعليم بمدارسنا .
    كل التقدير للمعلمة التي كتبت القصة الهادفة ..
    فالأسلوب سلس ،، والعبارات منتقاة ،، بارك الله فيها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى