المقالات

الإخواني في قاعة الاختبارات!

رغم مرور ‏أكثر من خمسة عقود من الزمن إلى أنني لا زلت أذكر موقف ذلك الإخواني وتعامله السيئ الذي لن ينمحي من الذاكرة، وأنا في قاعة الاختبارات بالصف الأول المتوسط، وبينما كنت مسترسلًا في إجابة أسئلة تلك المادة بين يدي حريصًا على الحصول على أعلى درجة فيها كغيرها من المواد حفاظًا على ترتيبي المتقدم بين زملائي في المدرسة.

فقد كان لأجواء الاختبارات سابقًا مهابة؛ حيث يُطبِق الصمت ويحلّ الهدوء، والجميع منكبّون على أوراقهم يجيبون على الأسئلة حسب معرفتهم ومستوياتهم، فلا تسمع سوى طقطقة الأقلام على الأوراق المسدلة على المقاعد؛ فلا يُسمح للطالب بغير القلم وورقة الإجابة المسلّمة من قبل المدرسة المركّنة بجزء يُكتب فيه اسم الطالب ورقمه السري، يتم طيّها وإغلاقها عند تسليم الأوراق حتى لا يعرف المصحّح -الذي هو معلم المادة في الغالب- لمن تكون، ويقف في القاعة عادة مراقبان من المعلمين ويراعى ألّا يكونا في نفس تخصص مادة الاختبار!

ويقف أحد المراقبين في مقدمة القاعة والثاني في آخرها، يذرّعان القاعة ذهابًا وإيابًا بين الصفوف المتقاطرة والمتباعدة ففي كل مقعد طالب من صف مختلف ليتبادلا المواقع في كل مرة، وقبل مضي نصف الوقت المحدد تقريبًا وقف بجانبي أحدهما، وهو معلم سوري لازالت هيئته وشكله وملامحه مطبوعة في الذهن (ببدانة جسمه، ووجهه العريض المشوب بحمرة، ولحيته المتوسطة الطول بشعرها البني الفاتح الذي يميل إلى اللون الأشقر) كان يدرّس مادة الدين لصفوفٍ في المدرسة غير صفّي، قرع رأسي بأصابع يده وشد أذني، وهو يضغط عليها بقوة! ولأننا نرى بأن العقاب لا بد وأن يكون بسبب خطأ أو مخالفة، فقد كنت أتساءل في داخلي ماذا فعلت لأحصل على هذا العقاب وفي هذا الوقت بالذات؟ واستمر بقرصه الشديد عندما قرأ اسمي الملصق أيضًا على المقعد وهو يقول بصوت خافت ألعن عبد الناصر ويكرّرها لمرّات ويقصد بذلك الرئيس المصري جمال عبد الناصر رحمه الله. وردّة الفعل هي بكاء الطفل ذي الثلاث عشرة سنة .. مع محاولة كتم الصوت حتى لا يُسمَع من بقية الطلاب أو يكون هناك إزعاج في القاعة؛ فنتعرض لعقوبة أشد كما نتوقع! وعندما ابتعد وأنا في قمة المعاناة من الوجع والغصّة يسبقها الخوف من المعلم، وبسبب النشيج المخنوق والمتواصل لاحظني المعلم الآخر من نفس جنسيته، وكان معلمًا للتربية الرياضية أقبل نحوي ليسألني عن سبب البكاء ولماذا توقفت عن الإجابات فأخبرته بما حصل من الآخر، فما كان منه إلا أنِ اقترب منه وهو محتدٌ ليوجّه له اللوم والتوبيخ بصوت مسموع، وبعض الكلمات التي خفّفت عليّ شيئًا من الألم النفسي، ومع ذلك لم ينبس بكلمة واحدة.

لكن الموقف أثّر على نفسية الطفل الذي سلّم الورقة دون مراجعتها فلم يعد مهتمًا بالدرجة بقدر ما يهمه العودة إلى المنزل سيرًا على الأقدام لأكثر من خمسة أميال. ولم يعرض المشكلة على إدارة المدرسة أو يفصح بذلك للأسرة؛ لأن القناعات الخاطئة التي تم التشبّع بها بأن المعلم على حق، وقد تعمّقت في الأنفس بأن “اللحم لكم والعظم لنا” وإزاء ذلك تشكّل الخنوع وعدم المطالبة بالحق المطلوب، ليحاسب المخطئ على خطئه.
وفي اليوم التالي كان وصول الطالب الصغير متأخرًا فلم يدخل القاعة إلّا مع تسليم الأوراق؛ ليستمع للإنذار من لجنة الاختبار بعدم تكرار ذلك مرة أخرى دون أن يعرفوا المعاناة النفسية التي سببت هذا التأخير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com