جدارية شاعر

علبة الألوان

حكاية

ساعة الصباح الباكر على كورنيش جدة لا مثيل لها..المشهد أمامه غاية في الجمال والعذوبة والصفاء..مياه البحر تستلقي أمامه في هدوء..على المقعد المجاور له تجلس أم وبصحبة ابنتيها الصغيرتين، وهي تحتويهما بعينيها في سعادة وفرح، وهما يُتابعان أسراب الحمام والعصافير وحركتها النشطة على الأرصفة، وهي تلتقط بقايا الطعام الذي يمنحه لها رواد الكورنيش..وطيور النورس المهاجرة من الشمال تملأ الفضاء الرحب بصخبها، وهي تمشي على الرمال البيضاء تاركة آثار أقدامها الناعمة كنقش الحناء على الكفوف..نقوش متكررة بانتظام هنا وهناك..أو تقف بثبات على أطراف الشاطئ لا يزحزها فوران زبد البحر من تحت أقدامها النحيلة، وهي تقتنص الأسماك الصغيرة التي ضلت طريقها إلى الساحل..ويشرق وجه الأم بابتسامة عذبة راضية بينما ابنها كان ممسكًا بطائرته الورقية الملونة بألوان قوس قزح، ويحرك خيوطها يمنة ويسرة كلما بدأت في الهبوط إلى الأرض فتعود للصعود مرة أخرى إلى الفضاء الواسع….ساعات قليلة يقضيها على الكورنيش وهو منكفء على مطالعة إحدى صحف اليوم.. منهمكًا في القراءة حتى ينسى نفسه، ويذوب في الحروف والكلمات..ثم يخلع نظارته الطبية ليستريح ويتأمل الناس من حوله .. يأخذ نفسًا عميقًا ويرشف من كوب القهوة المرة التي يحبها..يلوذ بصمت الذكريات التي لاتنتهي وينصت إلى وشوشات أمواج البحر وخفقاتها الهامسة، وهي تتوالد بين مد وجزر..أغمض عينيه وسرح بعيدًا، تذكر أمه واشتاق إلى حضنها الدافئ..كانت أمه امرأة صلبة يهابها الجميع..عنيدة ولكنها تحمل في داخلها قلبًا نقيًا ومشاعر إنسانية فياضة..كان ابنها الوحيد بين ثلاث بنات، غادر والدهم الدنيا مبكرًا تاركًا لها مهمة تربية أطفاله..ومنزل شعبي قديم وسط البلد ورثه عن جده..ومعاش تقاعدي لا يكاد يفي بمتطلبات الحياة الباهظة…فكانت أمه تقوم بخياطة الملابس لنساء الحارة، وتطريز المخدات برسوم جميلة ومتقنة ..فيأتيها من هذا العمل المضني بعض المال الذي يسد بعض احتياجات الأسرة..كانت أمه كثيرًا ما تمنعه من اللعب في الشارع مع أصحابه من أولاد الحارة.. وتحثه على الدراسة والنجاح فيها، وتقول له دائمًا: إن اللعب لا يفيد..وكانت تعلق على مدخل المنزل خيزرانة رفيعة تنزعها من مكانها أحيانًا لتخيفه بها هو وإخواته عندما يعملون شيئًا لا يرضيها.. ولكنها في ذلك اليوم ضربته بالخيزرانة على يديه وظهره بقوة..يومها تأخر في العودة إلى المنزل بعد انصرافه من المدرسة..ذهبت إلى المدرسة لتسأل عنه..وحين قال لها عم معتوق فراش المدرسة: إن جميع التلاميذ غادروا إلى بيوتهم..قلقت عليه..وزاد قلقها وخوفها حين أخبرها عم شكري بائع البليلة بأنه سمع بعض الأولاد يتهامسون فيما بينهم للذهاب إلى بحيرة الأربعين للسباحة فيها..وربما يكون ابنك من بينهم..حين عاد إلى البيت، وقد اتسخت ثيابه بالطين والوحل فوجئ بأمه واقفة عند الباب في انتظاره..دخل متسحبًا..فأمسكته من ذراعه وسألته أين كنت..أجابها مرتبكًا في المدرسة..قالت ولِمَ ثيابك متسخة..رد..لقد حدثت مضاربة بين الأولاد وسقطت على الأرض..سارعت إلى الخيزرانة انتزعتها من مكانها وقالت له بلهجة غاضبة:.. احلف..قال لها: والله العظيم..حينها هوت بالخيزرانة على يديه وظهره..صرخ متألمًا، وأخذ يحلف وهي تضربه وتقول له تكذب.. وتحلف…بل كنت مع أصحابك تسبحون في بحيرة الأربعين..صحيح ؟..عم شكري أخبرني بذلك..أعادت الخيزرانة إلى مكانها..وذهبت إلى المطبخ لتحضر له وإخواته طعام الغداء..وتركته جالسًا في غرفة المعيشة، وقد أسند ظهره إلى الجدار، وهو كان متألمًا..ثم عادت ووضعت صحون الأكل على الأرض دون أن تلتفت إليه أو تكلمه..جلست هي وأخواته حول الطعام، ورفض هو أن يأكل رغم إلحاح أخواته ودعوتهن له ومحاولة إقناعه بالأكل..تطلعت إليه أمه بحنان ثم مدت يديها إليه وجذبته إليها..أراد أن يتخلص من قبضتها، ويقوم عنها ولكنها منعته وأخذت برأسه في حضنها وقبلته..قال لها: وهو يُغالب بكاءه لماذا تضربيني يا أمي؟..ولماذا تمنعينني من اللعب مع أصحابي؟..قالت له وهي تمرر أصابعها برفق على شعره؛ لأنني أحبك وأخاف عليك؛ ولأنني أريدك رجلًا صالحًا مثل أبيك ترعاني أنا وأخواتك؛ ولأن اللعب لا يأتي بفائدة لأحد..نظر إليها صامتًا ثم قال لها ونظرة جديدة تسكن عيونه الباكية ..إذا كنت تمنعينني من اللعب مع أصحابي، فاشترى لي علبة ألوان كبيرة للرسم..أفلتته من حضنها ونظرت إليه طويلًا ثم قالت له وكأنها تصالحه..قم الآن قم الآن لنتغذى..وبعد العصر نذهب معًا إلى المكتبة لنشتري لك علبة الألوان التي تريدها من المكتبة..حين أذَّن العصر دخلت غرفتها .. صلَّت ثم بدلت ثياب المنزل ولبست عباءتها، واتجهت إليه حيث لا يزال مستندًا للجدار..سألته إن كان جاهزًا للخروج معها..بسرعة غسل وجهه ولبس ثوبًا نظيفًا وحذاءه..أمسكت بيده وسارت به في دروب الحارة وأزقتها الضيقة حتى وصلا إلى سوق البدو، وبعد أن سارت به قليلًا توقفت عند أحد الدكاكين، واستدعت شخصًا تعرفه وسألته بصوت خفيض أن يدلها على أقرب مكتبة لتشتري منها علبة الرسم..عرض عليها الرجل أن يشتري لها العلبة، ويأتي بها إليها..ولكنها رفضت وأصرت أن تذهب بنفسها إلى المكتبة..توقفت أمام المكتبة ثم دخلت بحذر وتتردد..استدعت البائع ..وطلبت منه أن ينتقي لها أفضل علبة ألوان كبيرة للرسم لديه..دفعت الثمن دون دون أن تفاصل كعادتها عندما تشتري الأشياء الأخرى..تحركت بخطوات واثقة وزهو خارج المكتبة..وسارعت بالعودة إلى المنزل، وهي تحمل أدوات الرسم بحرص بالغ، وهي ممسكة بيدة وشعور بالسعادة يكسو ملامحها وملامح وجهه ..اعتدل في جلسته المسترخية..ارتسف ما تبقى من كوب القهوة المرة، وأتبعها بقليل من الماء البارد..ثم نهض من مقعده..وطوى الجريدة التي كان يقرأها ومسح نظارته الطبية قبل أن يضعها على عينيه…حاول أن يتفادى بلاطة منزوعة من الرصيف قبل أن يخطو خارجه..وهو يحدث نفسه بصوت عالٍ.. رحمك الله يا أمي كم كنت سعيدة، وأنت تشاهدين أول معرض للوحاتي ورسومي التشكيلية، وعلى وجهك ترتسم نبضات قلبك المحب..ونفس الفرح القديم، وأنت تشترين لي لأول مرة علبة الألوان وفرشاة الرسم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com