المقالات

الثقافة تلدُّ سيدتها

لدى الكثير من مفكري ومثقفي الأمة العربية قناعة بأن منشأ الثقافة (The Culture) إنما كان في أوروبا وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وربما أن هذه القناعة إنما هي نتيجة الانبهار، وكذلك نتيجة الركود الثقافي الفاعل الذي أصاب الأمة العربية أن تكون فاعلة في تلك الفترة فترة القرن التاسع عشر الميلادي الذي شهد تحررًا فكريًا وثقافيًا, وتمردًا على سلطة الكنيسة، وما نتج عن ذلك من حركات التنوير, يُضاف إلى ذلك ما نتج من تأثير التوسع الأوروبي في البلدان العربية والإسلامية؛ لهذا كان التبرير بأن نشوء مصطلح الثقافة إنما هو أوروبي بدأ في روسيا .
ولو رجعنا للتاريخ العربي القديم, والتاريخ الوسيط أو ما يُسمى بالعصور الوسطى نلحظ أن الثقافة العربية كفعل ممارس سابق لأوروبا فلو رجعنا لمادة “ثقف” في معاجم اللغة العربية نجدها تعني التعامل مع البيئة والمحيط، وهي ملازمة فيقال: فلان ثقف, ويقال فلان ثقف السيف, والبستان,… إلخ؛ وعلى هذا نجد الإنسان العربي القديم تعامل مع المحيط به وثقف ذلك؛ فلقد ثقف ابن الجزيرة العربية تأثير المناخ في التجارة فكانت رحلة الشتاء والصيف, وثقف ابن الجزيرة العربية أهمية الأمن فأوجد الأحلاف العربية, وثقف النظم الاجتماعية التي تضبط سلوك مجتمعه, ونوازعه, وثقف أهمية الزراعة ونماها وثقف فصولها, ولقد ثقف أبناء مصر الأوائل قيمة نهر النيل وبنو العمران على ضفافه, وسنوا أنظمة وقوانين لأجل هذا, وكذلك في العراق وسوريا كانت الحضارة النهرية إنما هي نتيجة أن ذلك الإنسان ثقف المحيط به وفي بيئته وكانت نواتجها حضارات تتفق في أن ثقافة الإنسان هي النواة الأولى, وما الأديان إلا مهذبة لذلك السلوك الإنساني فالحضارة هي حضارة إنسان, وثقافة إنسان, والأديان تُهذَّب وتؤدب وتقر ما يمكن إقراره لهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: “إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاقِ”(رواه البخاري).
وأميل مع أصحاب الرأي الذين يرون أن تسمى ثقافة وحضارة الإنسان، ولا تسمى بالثقافة النصرانية أو الإسلامية أو اليهودية؛ لأن الأديان إنما تهذب وتربي، وتقر وتنكر، وتنمي وترشد.
إن الثقافة العربية موغلة في القدم والشواهد التاريخية تدلُّ على أن من الصعوبة تحديد نشوء الثقافة في العصر الحديث وجعل تلك النشأة في أوروبا إبان حركات التنوير, وحين كانت الكنيسة مسيطرة على الحراك الثقافي الشمولي في أوروبا .
الانبهار كان له مبرراته بالثقافة والحضارة الأوروبية؛ إذ كان العرب في فترة ركود في القرون الأخيرة, ثم التوسع الأوروبي في كثير من البلدان العربية والإسلامية, والتسويق لمنتجهم الثقافي والحضاري؛ حتى استقر في عقلية المؤثرين العرب إنما تلك الثقافة الأوروبية إنما هي نتيجة الخروج على الكنيسة، وهو ما يجب في زعمهم أن يكون ضد الإسلام .

ما أود الوصول إليه هو أن الثقافة العربية كممارسة والحضارة العربية سابقة وموغلة في القدم قبل الثقافة والحضارة الأوروبية، ولها شواهدها التاريخية المادية والمعنوية.

وأرى أن الثقافة سابقة للحضارة، وأن الثقافة هي النواة الأولى للحضارة ثم أصبحت الثقافة جزءًا من الحضارة , وأستطيع تشبيه الثقافة بالأمة التي تلد سيدتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى