المقالات

صوموا.. إلى أن تغرب شمس العمر

🖌️بقلم : جمعان البشيري 

أثناء حديثي مع أحد الأصدقاء عبر الهاتف قال لي:
طالما حدثنا أنفسنا باغتنام فرصة رمضان، وكم منيناها بصلاحها فيه، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأوبةٍ حقةٍ.. وتوبةٍ صادقةٍ .. ودمعةٍ حارةٍ ..ونفسٍ متشوقةٍ..
ولكن كلما أتى رمضان قضى الشيطان على الأمنية.!
ونقضت النفسُ الأمارةُ بالسوء بعهدها وغدرت..! فتابت ليالي، ورجعت أيامًا ثم عادت لسالف عهدها؛ كأن لم تغن بنور رمضان وضيائه..!!
مازال صديقي مستمرًا ومسترسلًا في المكالمة، وكنت أشعر من خلال نبرات صوته بحيرته؛ وكأنه أمامي والحيرة ترتسم على وجهه والتساؤلات تتزاحم، وتنعقد بين شفتيه واحدًا تلو الآخر! فقاطعته بالحديث؛ لأنني فهمت المراد فقلت له يا صديقي:
يطل علينا كل عام شهرٌ وموسمٌ من الخير جديد.! فأيُ رمضانٍ يكون هو رمضاني “أنا” أو رمضانك “أنت” أو “أنتِ” أو “هو” أو “هي” أو “هم” أو “هن” ؟
جميع هذه الضمائر للمتكلم وللمخاطب وللغائب والغائبة البارزة، قصدتها عمدًا لعل هذه الضمائر تستيقظ من غفلتها… !
نعم نحن في غفلة تتوارى خلف أستار التسويف
هل رمضاني أو رمضانك هو هذه المرة.. ؟!
هل هو رمضانُ للمسوفين للكسلانين المتقاعسين.. ؟!
أم رمضان المسارعين المجدين..؟!
هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشِقِوة.. ؟
هل هو شهرُ النعمةِ أم شهرُ النقمة.. ؟!
هل هو شهر الصيام و القيام.. ؟!
أم شهر الموائد والأفلام والهيام.. ؟!
هذا ما يعتلج بالفؤاد ويدور بخلدي وخلد صديقي ذاك..!!
لقد وجهت له الأسئلة قبل أن يوجهها لي؛ لأن صديقي ذاك يحب أن يطرح الأسئلة، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة إلّا يهيم في دهاليزها دون جدوى..!
ثم أردفت قائلًا -ببساطة ياصديقي-:
ها هو رمضان هلّ هلاله وحلت ظلاله .. ووجه سعده قد طل، وخيَّم جلاله، وسطع جماله، لقد أظلنا موسم كريم الفضائل .. عظيم الهبات والنوائل .!
ففيه كل عام تهب رياح التغيير على قلوب الأمة؛ فيتوب العُصاة، وتعمرُ المساجد، ويُهجر الغناء، ويُرتل القرآن، وتلين القلوب، وتدمع العيون، وترطب الألسنة بالذكر، وتزداد التقوى، وتكثر البركة..ونفحات الخير، ونسائم الرحمة والرضوان، فما ألذها من أيام معطرةٍ بالذكر والطاعة، وما أجملها من ليالٍ منورةٍ بابتهالات الراغبين، وحنين التائبين.!
ها هو رمضان يا صديقي عاد ومعه المنحةُ الربانية، والهبةُ الإلهية يعود علينا ونحن بأحسن حال، ننعم بالصحة والعافية، فهي فرصة للتغيير، وترتيب وإعادة الحسابات والبُعد عن التسويف فهو شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ من ألف شهر فُضّلت تفضيلًا!
فما المانع من أن نتغير للأفضل..؟!
قاطعني صديقي:
هل هذا التغيير سيكون حقيقيًا، وخصوصًا أن نفوسنا امتلأت ظلمة بتراكم صغائر الذنوب؟
هل سيوقظ القلوب من غفلتها ويبصرها من عماها؟
هل سيُنيرُ ظلمتها؟!
فتشعر بلذة الطاعة، وأنس المناجاة، وحلاوة القُرب، فتثبت بعد رمضان ونديم الصيام والقيام، والذكر وقراءة القرآن، والبر والنفقة، وسائر الطاعات ويجعل الله ثباتها على الطاعة جزاء طاعتها..!
لقد أتعبنا أنفسنا، وأرهقناها بالتسويف والوعود..
لماذا لا يكون العام كله رمضان عندي وعندك وعند كثيرًا من الناس؟!
كما كان سلفنا الصالح يفعلون ويستقبلون رمضان بستة أشهر يدعون الله أن يبلغهم رمضان ثم يودعونه بستة أشهر أن يتقبله منهم، فأحب العمل عندهم ما داوم عليه صاحبه.
فقلت: يا صديقي.
قد يكون هذا التغيـُّر شكليًا عند الكثير منا..!
لا يتجاوز صور العبادة دون حقيقتها، وسرعان ما يستسلمون أمام رياح الشهوات، وأعاصير الهوى، وجيش الفتن ما ظهر منها وما بطن ….
فينقلب هؤلاء بعد رمضان وينتكسون انتكاسة محزنة.. !!

طوبى لعبدٍ صحَ فيه صيامه
ودعا المهيمنَ بكرةً وأصيلا
وبليـــلة قد قامَ يختم وردَه
متبـــتــلًا لإلــههِ.. تبــتيــلا

جميعنا متفقون بدءًا بي وبصديقي وبك وبها وبكم وبهن إن رمضان: أشرُف الشهور، وأيامُه أحلى الأيام يعاتبُ الصالحونَ رمضانَ على قلة الزيارة، وطول الغياب، وسرعة الرحيل، فيأتي بعد شوقٍ، ويَفِدُ بعد فراق، فيجيبه لسان الحال قائلًا:
أهــــلًا وســهلًا بالصــــيام
يا حبــيبا زارنــــا في كل عــامْ
قـد لقــيــناك بحــبٍ مفعم
كُل حب في سوى المولى حرامْ
فاقــبل اللهمّ ربــي صــومنا
ثم زدنــا من عطـاياك الجسامْ
لا تــعاقبنا فــقــد عاقــبنــا
قلــق أســهرنا جــنـح الظلام

كلنا نتفق أيضًا أن الكثير:
بعد شهر رمضان تهب عليهم رياح التغيير بعكس ما كانوا عليه في رمضان، وينتكسون ويصبحون كالتي:
“غزلت فأحكمت غزل يومها ثم في لحظة نقضت غزلها”
قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا……) سورة النحل آية 92
فالصلاة التي حافظوا عليها ضُيعت.. !
والمساجد التي عمروها خربت.. !
والمصابيح التي أضيئت بقيام الليل أطفئت وبدلت ..!
والقرآن الذي رتلوه هجروه.. !
وبرزت النساء في الطرقات متبرجات.!
وعلت بالغناء الأصوات.. !
وبخل الأغنياء بالعطاء..وجاع الفقراء.. !
فعجبًا لمن ذاق حلاوة الطاعة…!!
كيف يستبدلها بمُر المعصية..؟!
وعجبًا لمن أعتقت رقبته من النار..!!
كيف يطلب أن يعود إليها..؟!
وعجبًا لمن كان أسيرًا تقيده سلاسل المعصية.! وتذله أصفاد الشهوات ثم يفك أسره ..
كيف يختار أن يعود..؟!
عجبًا لمن كان يعيش في زنزانة ضيقة مظلمة عَفِنة؛ فأُطلِق سراحه، ومنحه الله الفسحة وعاش في عالي القصور..حيث السعة والنور.. فإذا به يطلب أن يعود إلى حفرته وظلمته ووحشته.. !!
أخيرًا نتفق جميعنا إلَّا الأحمق ..
إن العاقل اللبيب والفطن الأريب من يحفظ همته العالية في الخير في رمضان.. ويستثمر ما رزق من الأنس بالله وحلو المناجاة ..وطهارة القلب.. ويقبل على ربه يعبده عبادة كما أمرنا الله -عز وجل-:(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) سورة الحجر:آية 99.
ليتنا نصوم عما يغضب الله في حياتنا…!!
ولا نفطر إلَّا بغروب شمس العمر.
اللهم ثبتنا على الطاعات حتى الممات قال تعالى: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوهاب) سورة آل عمران: آية 8

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى