تحقيقات وتقارير

“التونة كنز الأبيض” وثرواتنا المهدرة

بقلم: محمد بربر

ينصح خبراء الإعلام دائمًا الصحافيين الذين يرغبون في إنجاز تحقيق استقصائي بحسن اختيار الموضوع، والاستماع بعناية إلى الحكايات التي يرويها الناس في الشارع وفي المقاهي، هنا دائمًا نقطة البداية، وهو ما نجح فيه الصحافي والمخرج حلمي ياسين في فيلمه الوثائقي الجديد “التونة كنز الأبيض”.

رصد الفيلم الذي استمر تصويره ستة أيام حكاية هذه السمكة المختلفة، وخاض الصيادون رحلة البحث والأمل في عرض البحر، لتكشف لنا المشاهد عن أصل المشكلة، “عندنا بحرين ونيل و11 بحيرة وبنستورد السمك من برة”.

بذل فريق العمل جهدًا مكثفًا احترافيًا لينقل ما يعانيه الصيادون من مشكلات، الأدوات القديمة التقليدية، ومراحل الصيد وأوجاع المهنة وانتظار المواسم، مرورًا بخط الإنتاج المتوقف منذ سنوات بمصنع إدفينا بمدينة عزبة البرج في مصر. كان الأمر صادمًا وأحد المهندسين يؤكّد إمكانية صيد الأطنان من أسماك التونة عالية الجودة وتصنيعها وتعبئتها وتصديرها لتوفير العملة الصعبة، لكن أين الحكومة التي ما زالت تتعامل بمنطق “الاستيراد على البحري”، الأمر الذي يدفع ثمنه المواطنون. نريد مئات المصانع يا سادة.

تولى حلمي ياسين إعداد وتصوير وإخراج الفيلم، وقدًم بحثًا علميًا وحياة عملية والتقطت الكاميرا السفن التي اختار أصحابها أن يكتبوا عليها الأدعية الدينية طلبًا للرزق والنجاة من مخاطر رحلة لا يأمنون طريقها، والشاب الذي لا تعرفه شاشات الفضائيات وهو يعترف “زهقنا من الشغلانة القرف”، وجلسات السمر التي تهوّن الصعاب على ظهر المركب.

انحاز فريق العمل إلى إقليم دمياط، الذي يعاني من تدهور في صناعات تستطيع أن تجعل الجنيه المصري ينافس الدولار وتجاره، غلاء في خامات صناعة الأثاث وفشل في التسويق الدولي، واحتكار من كبار المصدرين “بعضهم كان يصدر قشًا للحصول على المنح الحرام”، وأزمة في صناعة السفن ومنح التراخيص وبدائية المعدات ووقف إنتاج التصنيع وانتهاء حلم التصدير وتراجع الصناعات الوطنية في بر مصر عمومًا.

متى تمنح الدولة الدعم للمزارع والصانع الصغير وتفتح الأسواق وتحارب المحتكر وتشدد الرقابة وتعاقب المقصر، وأسئلة أخرى أصبحت حديث الشارع في مصر، وأيضًا على ظهر المركب التقطها حلمي بحنكته ومهنيته وانحيازاته.

الموسيقى التصويرية التي قدمها محمد ناصر العزبي جسّدت التفاصيل وجعلت المشاهد يعيش واقعًا قد لا يشاهده إلا في الأفلام الأجنبية أو بعض الأعمال العربية على غرار “صراع في الوادي”.. وربما نعيش مع صراعات أخرى حتى اليوم، إلى جانب إبداعات أحمد حلبة وأحمد صيام في المونتاج والمكساج والجرافيك، وجهد متميز في التعليق الصوتي لمحمد عبد المنعم.

الفيلم الوثائقي الذي حاز إعجاب النخبة والجمهور، كان قريبًا جدًا من الناس، لكن أعتقد أن الحكومات المتعاقبة تجهل ما يعيشه المواطنون، أحد أصدقائي الخبثاء طلب مني إرسال نسخة إلى رئاسة الجمهورية، وأتصور أنّ الرئيس وحكومته ومرؤوسيه في حاجة إلى مشاهدة “التونة كنز الأبيض” ربما يجد الشباب الذين يعانون من البطالة فرص عمل في وقت قريب.

حسنًا فعل فريق العمل، والصديق العزيز حلمي ياسين، وما زلنا في انتظار أعمال تعبّر عن مصر المنسية بحكاياتها وناسها الطيبين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى