المقالات

هل ما زال الكتاب خير جليس؟

يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي في قصيدة له كان أشهرها هذا البيت الذي كان المهتمون يتداولونه عند الحديث عن القراءة الحرّة حيث جاء البيت على نحو :
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ
وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ ..
وهذا البيت يعتبر من المنبهات القديمة عندما كانت اللغة العربية بالذات هي مصدر عز العرب بعد أن نالت شرف نزول القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من قبله ولا من خلفه تنزيل العزيز الحكيم فجاءت أشعارهم تتوسد هذه اللغة الخالدة بخلود الكتاب الكريم وكانت القراءة مصدر إلهام للعرب في شعرهم ونثرهم لأنها إرث ثقافي عقدي لا ينفكان عن بعضهما البعض وبذلك كان الكتاب بدءاً من القرآن الكريم مخطوطاً كان أو مطبوعاً وانتهاء بالمكاتبات والمراسلات ثم المقررات الدراسية وما يحيط بهذه الكتب من تحقيقات وتفسيرات وشروحات جميعها تتعانق تحت مظلة اللغة وتغذيتها بالقراءة في هذه الكتب التي عكف عليها المحققون والمؤلفون وأخرجوها لنا في كتب قيمة كانت مصدراً ومعيناً لا ينضب لتغذية عقولنا قروناً كثيرة حتى عصرنا الحاضر وهنا لنا وقفات مع ما حدث ويحدث من تجافي عن اقتناء الكتب بشكل متسارع بسبب ما حدث من تقدم في وسائل الاتصال وتقنية المعلومات التي وأدت ذلك المصدر المعلوماتي لثقافتنا العامة والخاصة والمتخصصة وبهذا أصبحت أجهزة الذكاء مصدراً محفزاً وبديلاً عن حمل الكتاب فضلاً عن اقتنائه بما في ذلك المصحف الذي يحمل بين دفتيه سور القرآن الكريم حيث استعظنا عنه بالتطبيقات التي تنافس عليها المصنعون وجعلوها في متناول الصغير والكبير المبصر والضرير وفق أحدث تقنيات العصر وأنواع الخطوط وألوانها وأصبح الكتاب في ركن قصي مكاناً واهتماماً ورغم هذا تقام معارض الكتب الدولية في الوطن العربي وتشهد إقبالاً من طلاب العلم والمثقفين والأدباء والمفكرين ولعلنا نستشهد بنقيض لهذا الجفاء ما حدث للكاتب الروائي السعودي أسامة المسلم في معرض الكتاب الدولي المقام حالياً بمدينة الرباط عندما تدافع الآلاف نحو منصته ليحظى كل منهم بتوقيعه على كتبه التي شارك بها في المعرض مما جعل المسؤولون عن المعرض وبتدخل من رجال الأمن إيقاف التوقيع حتى وقت آخر بعدما حصل إغماءات بين المتدافعين وفقاً للبيان الذي تم توزيعه بالصوت والصورة لإحدى المذيعات وهنا وإن كان هذا التدافع بحسب اللقاءات بالجمهور كان له أسبابه المرتبطة بموضوعات كتب المسلم التي تحلق بالقراء إلى خيالات مرتفعة كما ذكر بعض الشباب والشابات من المغرب الشقيق وبكل فخر لهذا الكاتب استحوذ على قنوات التواصل بعشرات الفيديوهات والمقاطع والتصريحات له حول ما حدث له في المغرب مع قرائه الكثر الذين تزاحموا وظلوا يزاحمون منصته بطوابير ليس لها آخر لاقتناء كتبه التي بعضها وحسب كلامه سيصبح مشروع اعمال لقنوات فضائية وأنه سيبدأ جولات جديدة لإشهار كتبه في مناطق المملكة بعد عودته من المغرب .
وفي المقابل وقبل أسابيع صدر إعلان مدون عليه رقم جوال المعلن عن وجود مستودع بالكامل يضم قرابة ثلاثة ملايين كتاب للبيع وكأنها بهذا دخلت في مزاد علني ومع هذا فإني متأكد بأنه لن يتقدم لشرائها أحد حتى لو كانت قيمة الكتاب نصف ريال لأن من سيهم بشرائها سيتورط في تخزينها وبيعها وقد تبقى غصة في نحره إذا جاء الإعلان وتقنيات العصر في قمتها بظهور الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يفوق خيال المتخصصين فما بالكم بالناس العاديين والذين انضموا تحت جناح تقنيات أصغر أجهزة العصر المتمثل في جهاز الجوال الذي يستطيع تخزين ملايين الكتب وقل ما شئت من الصور والفيديوهات وأصبح كرة أرضية مسطحة تجمع العالم بل كل العوالم في السماء والأرض وما بينها والبحار وما في أعماقها وأصبح مركزاً يقدم لك جميع الخدمات التي تحتاجها وأنت جالس في مكانك في المنزل في السيارة في الطريق في الجو وقل ما شئت زماناً ومكاناً ولم يعد هناك حاجة للورق فأغلقت الصحف التي كانت من أهم ما يقتنيها الناس لمعرفة أخبار العالم فوأدتها تقنية العصر فأصبحت أخبار العالم كلها رهن إشارة من أصابعك وأنت تتصفح القنوات بجميع توجهاتها السياسية والاقتصادية والفنية والاجتماعية ولم يعد لقراءة الجرائد مكاناً ولا زماناً وفارقت قهوة الصباح التي كانت تلازمها وكذا المساء بعد أن امتدت عشرات السنين وهي من أهم اقتناءات النهار والليل بعد أن اتسع الطبع لجرائد مسائية تلبي حاجة القراء واليوم حلت مكانها الصحف الإلكترونية التي لا تقل عن القنوات الفضائية التي تلاحقنا بأخبارها ومعلوماتها وموادها لحظة بلحظة .
من هنا مع الأسف لم يتحقق بيت الشعر الذي قاله المتنبي ولم يصبح الكتاب خير جليس بعد أن حلّ مكانه أجهزة صرفت أنظار المجتمعات عنه إلا ما ندر من محبي الكتب الذين يرون فيها صداقة قديمة وهم قلة جداً لا يشكلون إلا أقلية في المجتمع العربي بالذات الذي افتتن بأجهزة الهاتف الجوال وأصبحت الأسرة مفككة بسبب كثرة تطبيقاته وتطوراتها المذهلة المتسارعة وأعلم كما تعلمون أن المكتبات العامة والجامعية والتجارية والخاصة تشكو الهجر وتشكو التأثيرات التي قد تتلف الكثير منها وخاصةً تلك المخطوطات التي كانت محل اهتمام الأثاريين وكانت تباع بأسعار باهظة فأصبحت اليوم في زوايا ضيقة وربما مظلمة لا ترى النور وأصبح الكثير يعاني ويشكو ولا يخفي سراً بأنه لا يعرف كيف يتخلص منها رغم ما تحمل بين دفتيها من كنوز معرفية تخرج عليها ملايين البشر يوم كانت مصدرهم الوحيد للتعليم والتعلم وعما قريب قد يحل مكانها أقراص واسطوانات بل وقد يأتي يوم يتعلم الجميع عن طريق الذكاء الاصطناعي رغم انه من صنع البشر ولكن هنا مفاجآت العلم والابتكار والاختراع لنرى عجائب العصر تصل لدرجات لا يمكن التصديق بها قبل أن تصبح حقيقة لا تقبل النقاش وبهذا هناك أسئلة كثيرة تدور حول الاستغناء عن الإنسان بالآلة التي صنعها بنفسه لخدمة البشرية فأصبحت وبالاً عليه لا يستطيع مجاراتها ولا التغلب عليها وقد يصبح حبيس الجدران يؤدي عمله من بيته كما هو الحال عن بعد في بعض المصالح العامة .
انعطاف قلم : سألت عامل المعرفة الدكتور احمد العرفج عن العنوان الذي وسمت به مقالتي هذه فأجب بكلمتين قائلاً : أنت لها .
من هنا جاءت مقالتي لعلنا نستشف الوجد من القراء ونقف على ما يرون في قادم الأيام نحو الكتاب والقراءة ومعطلاتها العصرية بسبب السرعة والحصول على المعلومة بأقل جهد وأقصر وقت وأضيق مكان ودارت الأيام !!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com