المقالات

الغرفة رقم ٨

كان زواج أبناء خالي “عبث” هي المناسبة التي التقيتُ فيها بابن عمي وأخي وصهري: سعد بن محمد بن ثعيل، ولم أكن أعلم بأنه اللقاء الأخير! ومن حُسن حظي بأني اختلستُ من وقتي بضع دقائق للجلوس معه؛ فقد كنتُ مشغولًا باستقبال الضيوف من خارج القبيلة.
لاحقًا كانت تلك الدقائق كافية بأن تترك في النفس ألمًا وشرخًا غائرًا.
أذكر بأنه كان في أفضل حالاته الصحية، تعلو محياه ابتسامة ليست بمستغرَبة، لكنها بدت لي بصورة أكثر جمالًا، وكان يُدير النظر في القاعة التي امتلأت بأبناء العمومة، وكأنه يودّعهم.
سألته عن صحته؛ فأجابني بأنه على خير حال.
لا أذكر -والله- ماذا دار بيننا غير ذلك! ربما بسبب سعادتي برؤيته؛ فقد حالت ظروفه الصحية عن حضور مناسبات الأفراح السابقة لهذه المناسبة، لكنَّ حضوره لهذه المناسبة تحديدًا وراءه دافع وسرّ خفي، ما كان ليجعله يكتفي بحضور إخوانه وأبنائه، العريس أصغر أبناء خالي الراحل عبث بن فراز، والدافع هو حبّه لخالي؛ فقد كان بينهما من الود ما يجعله يتحامل على نفسه، والسر شفرة حللتها؛ فإذا هي: (يا أبو سطام، هأنذا أحضر زواج ابنك وقد اشتقت لك).
استأذنته، فقد كُنا بصدد الإشراف على إعداد طعام العشاء؛ إلا أني قلت له: سيأتيك العشاء على الطاولة التي أمامك.
غادرتُ القاعة بعد انقضاء مراسم الزواج، وكنت على أمل اللقاء به قريبًا، فقد سبق أن أبدى لي رغبته بإقامة مناسبة لأحد عوانيه من خارج القبيلة.
ولم أكن أعلم بأن اللقاء القادم سيكون في مكان آخر، وفي ظروف أخرى؛ إذ كان في غرفة رقم ٨ بوحدة العناية المركزة بمستشفى الملك عبد العزيز بالطائف.
لم أكن أعلم بأن لقائي به سيكون أمام جسد مسجّى، وعليه اسمه قد خُطَّ باللون الأحمر.
ويشاء ربي أني كنت أول مَن دخل عليه بالغرفة رقم ٨، وأول من رآه مسجى، لكنّ دقائق الغرفة رقم ٨ كانت أكثر إيلامًا من دقائق ليلة قاعة الفيصل بمحافظة المويه، وأكثر استعراضًا لسيرته ومواقفه معي على وجه الخصوص ومع والدي وأسرتنا على وجه أخص، صُوَر متلاحقة تمر أمامي؛ وكأنها عقد من الجواهر قد تناثرت حباته.
خطواتي في الخروج كانت ثـقيلة على عكس الدخول، خرجت وقد خنقتني العبرة، خرجت ولساني حالي:
إِنَّ الــطَّــبِــيــبَ بِـطِـبِّـهِ وَدَوَائِـهِ
لَا يَـسْـتَـطِـيـعُ دِفَـاعَ مَكْرُوهٍ أَتَى

مات معجم الأخلاق…
وواحة الكرم والنبل…
مات الصهر وابن العم، مات أبو طراد بعد صراع مع المرض، ضرب خلاله أروع معاني الصبر والاحتساب، غاب سعد جسدًا وبقيت روحه السامية حاضرة في قلوبنا.
رحل رائد الكرم وحامل لوائه، رحل حفيد الفارس ثعيل بن رابح، رحل الشاعر العَذب والأديب الأريب، غاب هذا النجم لكنه ترك لنا نجومًا مضيئة تشع بريقًا ولمعانًا في سماء القبيلة إلى جنة الخلد يا أبا طراد؛ بإذن الله تعالى.

سعد بن ثعيل -يرحمه الله-

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com