في ذكرى اليوم الوطني السعودي الرابع والتسعين للمملكة العربية السعودية، نقف أمام مسيرة عظيمة بدأت بفكرة وأصبحت واقعًا مشرقًا يشهد له العالم أجمع، إننا اليوم لا نحتفل بوطن فحسب، بل نحتفل بفكرة أعمق وأسمى، فكرة تجسدت في توحيد المملكة على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – تلك الفكرة التي حملت في طياتها طموحات رجل ملهم، ورؤية ثاقبة لمستقبل مشرق، يسعى إلى بناء كيان لا يقتصر على كونه وحدة جغرافية فحسب، بل يمثل قوة التاريخ، وعمق الحضارة، وروح الوحدة الوطنية التي تنصهر فيها قلوب وعقول الشعب السعودي المتماسك على مدار السنين، مؤمنًا بقدرة قيادته الرشيدة على صناعة مستقبل زاهر يعكس طموحاتهم وآمالهم.
إن الحديث عن تاريخ المملكة العربية السعودية قبل توحيدها على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – يتطلب الرجوع إلى تاريخ طويل من التحديات والنزاعات القبلية والصراعات على النفوذ في شبه الجزيرة العربية. كانت شبه الجزيرة قبل التوحيد عبارة عن مناطق متفرقة تسودها الانقسامات القبلية والصراعات الإقليمية، التي أثرت بشكل مباشر على استقرار المنطقة. ولم تكن هناك دولة موحدة تمثل تلك المساحة الواسعة، بل كانت تحكمها مجموعة من الإمارات والمشيخات المتنافسة، حيث شهدت المنطقة ضعفًا في التواصل بين القبائل، وعدم استقرار سياسي واقتصادي أدى إلى تراجع الأمن والنمو.
إلا أن الفكرة التي حملها الملك المؤسس عبد العزيز – طيب الله ثراه – كانت فكرة جديدة ومختلفة عن أي محاولة سابقة لتوحيد الجزيرة العربية. لقد آمن بأن هذه الأرض، التي كانت مهد الحضارات والتاريخ الإسلامي العريق، تستحق أن تكون دولة قوية وموحدة. وكانت بداية هذه الفكرة مع دخوله إلى الرياض في عام 1902م، تلك اللحظة التاريخية التي أشرقت فيها أولى بوادر الوحدة السعودية الحديثة، لم يكن توحيد المملكة مجرد نصر عسكري فحسب، بل كان تجسيدًا لرؤية سياسية بعيدة المدى، حيث ركز الملك عبدالعزيز منذ البداية على ضرورة توحيد القبائل المتفرقة تحت راية واحدة، مع ضمان الاستقرار وتحقيق الأمن في جميع أنحاء شبه الجزيرة.
في عام 1932م، حين أعلن الملك عبد العزيز تأسيس المملكة العربية السعودية، كانت تلك اللحظة ليست فقط بداية عهد جديد، بل كانت نقطة تحول في تاريخ المنطقة والعالم. فلقد استطاع الملك عبد العزيز برؤيته الاستراتيجية وحنكته السياسية أن يوحد القبائل والشعوب تحت راية واحدة، ليبني دولة حديثة تتميز بتوازن دقيق بين الأصالة والحداثة. لم يكن توحيد المملكة أمرًا سهلاً، بل تطلب ذلك سنوات من العمل الدؤوب، والشجاعة، والإصرار على مواجهة التحديات، وبفضل عزمه وإيمانه العميق بأهمية الوحدة، نجح في تحقيق الحلم الذي ظن البعض أنه مستحيل، وحوّل التحديات إلى فرص، ليرسم بذلك مسارًا لأجيال تتطلع نحو الغد بكل ثقة.
لقد استمر الملك عبد العزيز في نضاله وجهوده لتوحيد باقي مناطق الجزيرة العربية، بدءًا من نجد، مرورًا بالحجاز، ثم الأقاليم الجنوبية والشمالية، حتى استطاع في 23 سبتمبر 1932م إعلان تأسيس المملكة العربية السعودية. ومع هذا التأسيس، بدأت مرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية، حيث تم تأسيس دولة تتميز بالقوة السياسية والاقتصادية، مع التزامها بالقيم الإسلامية التي جعلت من المملكة لاعبًا رئيسيًا في العالم الإسلامي. ومع هذا التأسيس، بدأت المملكة مرحلة جديدة من التطور والازدهار، حيث استمر البناء والنمو على أسس متينة وضعها الملك المؤسس.
تأسيس المملكة العربية السعودية لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل كان انطلاقة لبناء دولة حديثة ومؤثرة على الصعيدين الإقليمي والدولي. من خلال ترسيخ قيم الإسلام الحنيف والتمسك بالعادات والتقاليد العربية الأصيلة، سعت المملكة منذ بدايتها إلى الجمع بين عمق التاريخ والتراث من جهة، وبين طموحات التحديث والتطوير من جهة أخرى. وبفضل هذا التوازن، أصبحت المملكة نموذجًا يحتذى به في تحقيق الاستقرار والنمو المستدام، معززة مكانتها كقوة رائدة في العالم الإسلامي والعربي.
بعد وفاة الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه – في عام 1953م، تولى أبناؤه الحكم من بعده، كلٌ منهم أسهم في استمرارية هذه الدولة الفتية، وعزز من مكانتها على الساحة الإقليمية والدولية. لقد عمل كل ملك على تحقيق التقدم في مختلف المجالات، سواء من خلال تطوير البنية التحتية، أو تعزيز الاقتصاد، أو تمكين التعليم، أو تحسين العلاقات الدولية. وتحت قيادة الملك سعود، ثم الملك فيصل، ثم الملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله – رحمهم الله -، استمرت المملكة في تحقيق إنجازات كبيرة، فإن كل ملك من أبناء الملك عبد العزيز حمل مشعل التوحيد بطريقته الخاصة، فكان لكل منهم بصمته الخاصة في الحفاظ على هذا الكيان العظيم وتطويره. الملك سعود – رحمه الله – على سبيل المثال، ركز على تطوير البنية التحتية، وبناء المستشفيات والمدارس، وتعزيز التعليم والصحة وأسس جامعة الملك سعود. دوليًا، دعم وحدة الصف العربي. الملك فيصل – رحمه الله – ساهم بشكل كبير في تحديث المملكة وإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية القوية مع العالم الخارجي. الملك فهد – رحمه الله – كان له دور ريادي في توسيع الحرمين الشريفين وتحديث النظام الإداري في المملكة. وكذلك الملك عبد الله – رحمه الله – أطلق مبادرات كبرى في مجالات التعليم والإصلاحات السياسية والاقتصادية. حتى وصلنا إلى العهد الحالي تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله -، حيث تشهد المملكة تحولات نوعية في شتى المجالات، أبرزها رؤية 2030 التي تهدف إلى بناء اقتصاد متنوع ومستدام، وتحقيق نهضة شاملة على المستويات كافة.
الآن، وفي ظل التطورات العالمية السريعة، أثبتت المملكة قدرتها على الاستجابة للتحديات المعاصرة، فقد تمكنت من التكيف مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية بشكل ديناميكي ومبدع. النموذج السعودي اليوم، خاصة في ظل رؤية 2030 التي أطلقها سيدي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله -، يعكس فلسفة عميقة نحو تحقيق التنمية المستدامة، متجاوزةً الحواجز التقليدية، والاعتماد على استراتيجيات مبتكرة لبناء اقتصاد متنوع وقادر على الصمود أمام التحديات المستقبلية. وقد جسدت المملكة من خلال هذه الرؤية التزامها بتحقيق قفزات نوعية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة والطاقة المتجددة، ليصبح الاقتصاد السعودي أحد أكثر الاقتصادات الواعدة على مستوى العالم.
إن العهد الحالي، تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله -، هو امتداد طبيعي لتلك المسيرة التاريخية العظيمة. إذ تشهد المملكة في ظل هذه القيادة الرشيدة تحولات نوعية وجذرية في شتى المجالات، سواء الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، أو القانونية. لقد أظهرت القيادة الحالية بوضوح قدرتها على دفع المملكة نحو آفاق جديدة من التطور والابتكار، مع الحفاظ على هوية المملكة الإسلامية وقيمها الراسخة، حيث تُولي القيادة اهتمامًا بالغًا بمستقبل الأجيال الشابة، وتوفير بيئة مواتية للإبداع والابتكار، مما جعل المملكة وجهةً لكل طموح يسعى إلى النجاح.
ما يميز تاريخ المملكة العربية السعودية هو هذا الامتزاج الفريد بين الإرث الحضاري والرؤية المستقبلية. فالمملكة، التي تأسست على قيم الإسلام الوسطية، تعكس دائمًا التوازن بين التمسك بالتقاليد العريقة والتطلع نحو المستقبل. هذا التوازن هو ما جعلها قادرة على الصمود في وجه التحديات وتحقيق النجاحات المستمرة.
إلى جانب ذلك، نجد أن المملكة قد حافظت على موقعها الريادي في مجال الدبلوماسية الإقليمية والعالمية، حيث أضحت قوة لا يُستهان بها على الساحة الدولية، ليس فقط من خلال دورها القيادي في دعم الاستقرار والسلام في المنطقة، بل أيضًا من خلال مساهماتها الإنسانية والإغاثية حول العالم. إن الدور السعودي الفاعل في المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين، يؤكد على التزامها بالقضايا العالمية، مثل محاربة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة.
التلاحم بين الشعب السعودي وقيادته هو واحد من أعظم مظاهر هذا النجاح. فمنذ تأسيس المملكة وحتى يومنا هذا، ظل الشعب السعودي هو السند الأبرز لقيادته، يتمسك بقيم الولاء والانتماء ويعمل بجد وإخلاص في سبيل بناء وطنه والدفاع عنه. هذا الترابط الفريد بين القيادة والشعب هو حجر الأساس في استقرار المملكة وتطورها على مر العصور، إذ يعكس هذا التلاحم ثقة متبادلة بين القيادة وشعبها، تؤكد أن البناء والتقدم لا يمكن أن يتحققا إلا بيدٍ واحدة وبقلوب مؤمنة بوحدة الهدف.
إن الإنجازات التي تحققت منذ تأسيس المملكة العربية السعودية وحتى يومنا هذا ليست مجرد أرقام أو مشروعات، بل هي قصة نجاح تحمل في طياتها قيم الوحدة والعمل الجماعي. ولعل أبرز ما يميز هذه المسيرة هو قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بروح من التفاؤل والثقة بالمستقبل، حيث استطاعت المملكة دومًا أن تتكيف مع المتغيرات العالمية والإقليمية، وتواصل مسيرتها بثبات نحو تحقيق المزيد من النجاحات على كافة الأصعدة.
من زاوية فلسفية، المملكة تمثل أكثر من مجرد دولة. إنها تجسيد لرؤية تنموية متكاملة ترتكز على فكرة الوجود الوطني، حيث يندمج الشعب مع قيادته في تحقيق أهداف مشتركة. هذا الانصهار هو ما يجعل المملكة قادرة على الاستمرار في مسيرتها، وعلى مواصلة التقدم رغم أي تحديات قد تواجهها، حيث يبقى الالتزام بالقيم الراسخة هو مفتاح هذا النجاح المستمر.
اليوم الوطني ليس مجرد مناسبة للاحتفال بذكرى التأسيس، بل هو فرصة لتجديد العهد والولاء، وللتأكيد على أن المملكة العربية السعودية، بفضل الله ثم بفضل قيادة حكيمة وشعب وفي، تسير بثبات نحو مستقبل أكثر إشراقًا.
ختاماً، في ذكرى اليوم الوطني الرابع والتسعين، لا نقف فقط أمام حدث تاريخي، بل أمام مسيرة مجيدة بدأت بتوحيد المملكة وتأسيس دولة عصرية بفضل رؤية الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – طيب الله ثراه -. هذه المسيرة لم تكن مجرد قصة توحيد أرض وشعب، بل تجسيدًا لطموح مستمر نحو بناء مستقبل يعكس القيم الإسلامية والهوية الوطنية في سياق عالمي متغير.
اليوم، ونحن نشهد عصر التحول والنمو تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله -، فإن المملكة تخطو بثبات نحو المستقبل، مستفيدة من موروثها الحضاري ومتسلحة برؤية 2030 الطموحة التي تُعيد تشكيل اقتصادها ومكانتها على الساحة الدولية. هذه الرؤية تركز على التنمية المستدامة، والابتكار، وتمكين الشباب، مما يجعل المملكة لاعبًا رئيسيًا في رسم مستقبل المنطقة والعالم.
إن الشعب السعودي، الذي طالما كان شريكًا في هذه المسيرة، يجدد اليوم ولاءه لقيادته، مُدركًا أن استمرارية النجاح لا تتحقق إلا بوحدة الصف والإيمان بالمستقبل. وفي ظل هذا التلاحم التاريخي بين القيادة والشعب، يتجدد العهد بالمضي قدمًا نحو مزيد من الازدهار، حيث تبقى المملكة رمزًا للقوة والوحدة، وجسرًا يربط بين الأصالة والحداثة.
اليوم الوطني ليس مجرد احتفاء بالماضي، بل هو تأكيد على أن المملكة مستمرة في رحلتها نحو التقدم، وأن كل إنجاز يتحقق هو لبنة في بناء مستقبل أجيال قادمة، تعيش في وطن آمن، مزدهر، ويمثل قدوة في التطور والتنمية على مستوى العالم.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخرًا للإسلام والمسلمين.
– أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة سياسي – دولي