يشهد وطننا الحبيب المملكة العربية السعودية اهتماما متناميا بدراسة آثار السيرة النبوية، وفق رؤية حضارية واعدة، لاسيما ان أراضي المملكة تعد متحفا طبيعيا مترامي الأطراف، ولعل من الأمور المحببة إلى نفس كل مسلم مدارسة تضحيات الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالته، وخاصة تلك التضحيات التي بذلها في رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، تلك الرحلة التي كان للمرأة المسلمة حضور قوي وبصمة واضحة فيها، من خلال اشتراك أم المؤمنين عائشة، وأختها أسماء رضي الله عنهما في الإعداد لها.
هذا وقد نال شرف دراسة طريق الهجرة النبوية في هذا العصر جمع من الباحثين الكرام، الذين اجتهدوا في تحقيق المسار الصحيح لطريق الهجرة، لكن دراستهم شابها بعض الأخطاء التاريخية، وخاصة في المرحلة ما بين غار ثور إلى عسفان، حيث ذهبوا إلى القول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما غادر جبل ثور فجرا سار باتجاه الغرب، ولما اشتدت الشمس استراح في ظل صخرة، وبعد ان استيقظ سار شمالا نحو الحديبية و وادي مر الظهران (وادي فاطمة) ثم أكمل سيره حتى كراع الغميم وعسفان، وهناك التقى ببريدة الأسلمي الذي أسلم هو وقومه البالغ تعدادهم قرابة ثمانين نفسا، وصلوا العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وبدراسة هذا المسار الذي تبناه بعض الباحثين المعاصرين اتضح وجود عدة أخطاء تاريخية، وفيما يلي أبرزها:
1- ان منطقة الحديبية وكراع الغميم تدخلان ضمن حدود قريش السياسية، حيث ان منطقة الغميم هي التي عسكر فيها خالد بن الوليد عندما صدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرم في غزوة الحديبية، وهذا يتطلب من الركب الميمون عدم الاقتراب من الحديبية أو كراع الغميم لأسباب أمنية لا تخفى على دارس التاريخ.
أما ما تزعمه الروايات الضعيفة سندا ومتنا عن لقاء رسول صلى الله عليه وسلم ببريدة الأسلمي وقومه في كراع الغميم أو عسفان، وقيام رسول الله بتلقينهم الشهادتين، ثم تعليمهم الوضوء، ثم تعليمهم الصلاة، وتحفيظهم سورة الفاتحة حتى يتمكنوا من أداء صلاة العشاء مع رسول الله، فإن ذلك يستغرق زمنا طويلا، وهذا يتعارض مع الاحترازات الأمنية التي فرضتها طبيعة المرحلة، ويحول الهجرة إلى نزهة برية أو مكشات، مع ان حال رسول الله أيام الهجرة كان يشبه حال موسى عليه السلام عندما خرج من مصر، قال تعالى:
(فخرج مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّب)، ونحن نتذكر ان المرة الواحدة التي تخلى فيها ركب الهجرة الميمون عن الاحتياطات الأمنية في وادي قديد بسبب نفاد زادهم، واضطرارهم إلى البحث عن الزاد بالقرب من طريق القوافل (طريق الموت)، الذي ترصده عيون قريش وحلفائها، في تلك المرة الواحد التي مروا فيها بخيمتي أم معبد، تم رصدهم من أحد فرسان العرب وهو سراقة بن مالك الكناني الباحث عن جائزة المائة ناقة.
2- من المعلوم ان مصطلح (أسفل عسفان) الوارد في المصادر التي تحدثت عن مسار طريق الهجرة يقصد به (غرب عسفان)، لأن كلمة (أسفل) يراد بها (الغرب)، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في غزوة بدر عند حديثه عن موقع قافلة أبي سفيان التي سلكت طريق الساحل، وهو غرب موقع غزوة بدر، قال سبحانه وتعالى في سورة الأنفال:
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ).
ويؤكد ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب:
(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)، حيث ان أسفل منكم تعني الغرب وهو موقع معسكر قريش حول المدينة في غزوة الأحزاب.
ومع ذلك فإن بعض الباحثين المعاصرين تنكبوا هذه المعلومة وذهبوا إلى القول: إن رسول الله سلك طريق الحديبية، ثم كراع الغميم، ثم عسفان. وهذا يعني ان ركب الهجرة جاء من الجنوب، مخترقا حديقة قريش الخلفية (كراع الغميم)، ضاربا عرض الحائط بجميع الاحترازات الأمنية، وكأنه يقول لقريش: حياكم الله!
على أية حال فقد أكدت الروايات الصحيحة أن موكب الهجرة لم يمر بكراع الغميم ولا بعسفان، بل سلك طريق الساحل الذي يمر بغرب عسفان، ثم واصل سيره مارا بغرب أمج (خليص)، لأن عسفان وأمج تعدان من منازل قبيلة كنانة حلفاء قريش.
وأما خط السير الذي يتوافق مع المعطيات العلمية و الذي يحتمل ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد سلكه بعد خروجه من غار ثور، فقد قمت مع بعض الباحثين برحلة علمية استكشافية لطريق الهجرة من غار ثور وحتى مسجد قباء، وقد تبين ان ركب الهجرة بعد خروجه من غار ثور سار غربا حتى وصل صخرة المستظل، عند جبلي عمرو و عمير، حيث دلنا عليها الرحالة عبد الحافظ القريقري، ثم واصل ركب الهجرة سيره غربا نحو الساحل حتى وصل منطقة أم السلم ، الواقعة شرق محافظة جدة، و هناك بات رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة الأولى، وفي الصباح سار ركب الهجرة من منطقة المبيت الأول متجهين شمالا حتى مروا بغرب عسفان، هذا و الله تعالى أعلم.
• رئيس قسم التاريخ بجامعة أم القرى سابقا