المقالات

وداعاّ ،،، فقيد الحرف والكلمة

• في رثاء الأستاذ الدكتور محمد بن مريسي الحارثي ( رحمة الله)
الذي وافاه الأجل يوم الثلاثاء 19/08/1446هـ ووري جثمانه عصر الأربعاء 20/08/1446هـ
الإهداء : إلى أبنائه وأصدقائه وتلاميذه والمحبين…

فاتحة:
الموت حق علينا قد عرفناه
في كل حين ينادينا ….. فنلقاه
يختار من كانت الأروح منزلهم
وما جز عنا ،،، لأن الراحم الله
رحم الله (والدكم) وأسكنه فسيح الجنات وألهمكم الصبر والاحتساب … وإنا لله وإنا إليه راجعون ))
بهذه العزائية / الفجائية، تواصلت مع الأخ الأستاذ مشهور بن محمد مريسي الحارثي (يرحمه الله) عبر (الواتس) عندما وصلني منشوره الذي ينعي فيه والده (يرحمه الله) ويحدد مكان الدفن والعزاء وذلك مساء الثلاثاء 18 فبراير 2025 الساعة 11:8 مساء.
ويا سبحان الله .. كنت قبلها بأيام وتحديداً مساء الثلاثاء 4 فبراير 2025 أتابع الأخ مشهور في (إحدى حالاته على الواتس) حيث نشر صورة لوالده يرحمه الله) وهو يحتضن القرآن الكريم ، فأرسلت له : (هذا الوالد ؟ اللهم اجعل القرآن له دواءاً وشفاءً، وأنساً وانتفاعاً، ورفقة واتباعاً !! – ورد علي الأخ مشهور مساء الأربعاء 5 فبراير 2025م الساعة 11 مساءً يقول : اللهم آمين وجزاك الله خيرا !!
وما هي إلا أسبوعين تقريباً ويأتينا النعي .. فتعود بنا الأفكار إلى قدرة الله وتغيير الأحوال من الصحة إلى المرض … و من المرض إلى الموت، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .. فرحم الله من مات .. والبركة في الباقين من الأولاد والأحفاد الذين سيحملون إرث والدهم ( يرحمه الله) ومكانته بين المعارف والأقارب والأصحاب.
(2) وللأسف الشديد .. لم أتمكن من المشاركة في الصلاة على الفقيد والدفن في مقابر شهداء الحرم بمكة المكرمة ، ولم أتمكن كذلك من العزاء في الأيام التالية ، فقد كنت في رحلة سياحية وتاريخيا وأثارية إلى مدينة رسول الله (صل الله عليه وسلم) ، وإلى العلا في الفترة من صباح يوم الأربعاء 20/8/1446هـ إلى مساء يوم السبت 23/8/1446هـ .
ولعل أبناء الفقيد (يرحمه الله) يعذرونني على هذا التقصير ، مؤكداً لهم إن ما يشفع لي أن محبة الدكتور (يرحمه الله) في قلبي وعقلي وطيدة الأركان منذ عرفته وحتى هذه الوداعية الرثائية .. التي أستمطرها معرفة .. وألفة وانتماء مع المرحوم إن شاء الله .
فلقد عرفته منذ فترة مبكرة، وقربني إليه زمالة تربوية مع بعض إخوانه، إذ زاملت أخاه سعد بن مريسي الحارثي في دار التوحيد – المرحلة الثانوية وفي قسم التاريخ بالمرحلة الجامعية. وزاملت أخويه عبد المعين مريسي الحارثي وعبد المجيد مريسي الحارثي معلمين وقياديين في تعليم جدة ، ومع أبنائه الأستاذ مشهور ، والدكتور منصور ، والدكتور مازن (فيما بعد).
ولكن القرب الأكبر كان معه شخصياً عبر المنابر الثقافية والطروحات النقدية واللقاءات الأدبية في نادي مكة الثقافي، ونادي جدة الأدبي وعبر كل ذلك وجدته ناقداً أدبياً، ومفكراً عالماً، له إسهاماته ومشاركاته، التي تعلمت منها المفيد والجديد.
وأجمل ما عرفته عنه واستفدته منه إيمانه بمبدأ الحرية والمناداة بها (حرية منضبطة لا تتجاوز حريات الآخرين، وطالب باحترامها وقبولها والتعاطي معها) !! يقول عنه أحد طلابه (الدكتور فهد الشريف / أحد تلاميذه في مرحلة الماجستير)
أنه تعلم هذه القيمة الأخلاقية والمسلكية مما عاصره وعاشه مع أستاذه حيث يتيح الفرصة لمن يختلف معه حول مسألة ثقافية، أن يعبر عن رأيه بكامل الحرية فلا يصادر ولا يقصي بل يشجع ويحفز ويدعم !!
ومن هذا المنطلق قادتني الصدف – وما أكثرها – أن أجلس إليه مستمعاً ذات مساء نقدي ربما في ناد أدبي، فطرح مصطلحاً نقدياً أدبياً جديداً لم أسمع به من قبل. وهو (العوربة). وتماهيت مع هذا المصطلح في مظانه البحثية المعاصرة واستفدت منها في كثير من أوراقي البحثية النقدية فيما بعد، ولكني فوجئت أن له دراسة أو بحثاً منشوراً بعنوان (العوربة والعولمة بين المخالفة الصراع) واحسب انني ناقشت هذه المسألة في كتابي: معالم وآفاق في عوالم الاستشراق قراءة ثقافية الصادر عام 1441هـ ، وكان ذلك من باب وقع الحافر على الحافر أو تحت مقولة النقاد والمحدثين (التناص).
ومن هنا ستكون هذه الرثائية درساً في الأثر والمنتج الذي انتجه المرحوم (ان شاء الله) ، وما زلنا نتتلمذ ونتمدرس عليه .
* * * * * * * *
(3) ويمضي الزمان بك قارناً، ومتثاقفاً، ومجايلاً ومتتلمذاً، فتجد في طريقك أناساً يمنحونك المعرفة حباً وعطاء، والأدب خلقاً وسلوكاً، والجمال إحساساً ومعنى !!
ومن أولئك رجل عركته الحياة الثقافية، والمسلك الأكاديمي فقدم وتقدم، خرج عن عبودية الإدارة والقيادة في السلك الجامعي، ليتفرغ لعلمه فيخرجه للناس كتباً ومقالات ، ندوات ومحاضرات ، مشاركات نقدية وأمسيات.
رجل تنامى في التراث فاستوعبه، وتناص مع القرآن فجوده واستمد بركته، وتماشى مع الحداثة فالتقاها متفاعلاً ومؤثراً وصاحب رأي وفكر سديد !!
عرفته ميادين الثقافة: الصحافة والدوريات الصوالين والمنتديات المحاضرات والمؤتمرات المنابر الثقافية والأمسيات، فقدم فيها عصارة حياته العلمية، وثقافته الشمولية، وآراءه النقدية، فتفرد في منجزاته وانجازاته، وتعدد في أفكاره وطروحاته. وتجاوز مجايليه في كتاباته ومؤلفاته (يرحمه الله).

الفقيد محمد مريسي

إنه الأستاذ الدكتور / البروفيسور محمد بن مريسي الحارثي رحمه الله الذي غادر حياتنا الفانية بعد أن قدّم العديد من الكتب المائزة ، والطروحات المتميزة التي جعلت القارئ الواعي مستجيباً لها، متفاعلاً معها، مستفزّاً بما فيها، متوثباً للتداخل والتثاقف معها فيما تقوله من فهومات وحوارات ثقافية وأدبية.
ومن تلك الكتب والطروحات سأختار واحداً من أبرز كتبه النقدية للتعريف به والتداخل النقدي معه، وسبر غوره واستنطاقه ومحاورته، وهو: كتاب نقدي أسماه المؤلف (رحمه الله) (في أصول الحداثة العربية) ، وهذا عنوان لافت ومثير، يغري بالقراءة والتناول النقدي وقد صدر عام 1434هـ 2013م في طبعته الأولى، عن دار المؤلف للنشر، حيث جاء في (126) صفحة).
ومنذ العنوان يقف الدارس والناقد على الغاية الضمنية لهذا المبحث الهام في سياق دراستنا النقدية، فالمؤلف الدكتور محمد مريسي الحارثي (يرحمه الله) يعيش هاجس (الأسلمة) للمصطلحات النقدية والفضاءات الثقافية المتجددة وعوربتها تأصيلاً مفاهيمياً، فتراه يمهد لهذا الكتاب بآيتين قرآنيتين يجيء فيهما مفردة (الحداثة) في قوله تعالى: ﴿ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ الآية (2) من سورة الأنبياء). وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الآية (5) من سورة الشعراء).
وبهذا يعيد أصول المفردة (الحداثة) إلى النص القرآني العربي وليس إلى مفاهيم الحداثة الغربية، ويتأكد هذا الاستنتاج النقدي من قرائتنا لبعض مقولاته في مقدمة الكتاب..
*إن الحداثة في الذكر المحدث ليس متغيراً مستمراً. إنها متغير ثابت لأنه تنزيل الخالق وليس تنزيل المخلوق، ولأن كلام البشر حوله لا يحل محله، وأن سيرورة الحداثة العربية المنطلقة من المفهوم القرآني ومن العرف العربي تختلف في فلسفتها من حيث وظائف الهدم والبناء ص 12.
*وكانت حداثة الإسلام خارقة في تلك التحولات من حيث علاقة الحداثة التغييرية بأزلية زمانية قديمة.
*إن هذا الاتصال الشرعي بين الذكر المحدث القرآن، والأولية المكانية للعيادة.. كل ذلك يبعث على الإيمان بأن مدير الكون واحد ص 13
*لم يكن الذكر المحدث معطلاً لهذا الجانب العلمي التجريبي، فالله لم يخلق العقل ليعطله عن مهمته في الحياة ص 13
ومن كل هذه المقولات التأسيسية في مقدمة الكتاب، يصل بنا المؤلف (يرحمه الله) إلى أن البحث في أصول الحداثة العربية يستدعي الانطلاق من مفاهيم ومعطيات الذكر المحدث في فعله التغييري، وفي مسيرة الحداثة العربية في الثقافة الإبداعية النظرية وليس على معطيات الحداثة الغربية ص 14-15
ثم نجد هذه المنطلقات الإسلامية والعروبية في النظر إلى الحداثة في إضاءته التعريفية بهذا الكتاب، إذ يشير إلى مفهوم الأصالة والأصول في المقدس القرآني ودلالات العوربة اللغوية من جودة وعراقة، وتميز (ص 19-20) وهذا ما دفعه للبحث في حركة الحداثة الغربية الحديثة وأصولها في بنية الحضارة العربية (ص 21) ليصل إلى نتيجة مؤداها أن العلاقة وثيقة جداً بين الذكر المحدث الهوية الأصل والعربية البنية الأساس من الهوية (ص 23)
ثم يتنامي الكتاب في مباحث تفصيلية تحت عناوين تأسيسية للفكرة التي يريد
الوصول إليها، ثم ينطلق إلى حوارية عقلية يقارب فيها مسألة البحث عن جذور الحداثة العربية ليجدها في الذكر المحدث القرآن والدين الإسلامي بوصفه محدثاً هدم جاهلية العرب وأعاد بناءها على أسس جديدة بوصف (الذكر المحدث) مشروعاً تغييرياً لحالات اجتماعية قائمة.
ويصل المؤلف في نهاية هذا المحور إلى أن الحداثة تحتاج إلى التراث ولا تنفصل عنه وبالتالي فإن الذكر المحدث هداية الله لمن شاء من عباده وهو التراث الرباني الذي لا يقبل التغيير لأنه محدث رباني وتغييري في نفس الآن، وهذا النص المحدث مؤهل للثبات والتجدد والفاعلية والإضافة، والاستمرار ” (ص 50).
ثم تتوالى مباحث الكتاب فنجد مبحثا بعنوان مسايرة الثبات من (ص65 -71) فيه يتجه المؤلف إلى تقصي دلالات الذكر المحدث القرآن والتكفل بحفظه من التغيير والتبديل، وإقرار الثبات في صدور المؤمنين، لأنها حداثة كونية دينية: سماوية تهيأت لها مركزية معرفية كونية عالية فضاؤها الكون والحياة والإنسان كما يقول (ص 55).
ثم نجد مبحثاً آخر بعنوان تحديث التناسب (ص 75-77 ) يتعاطى فيه المؤلف العلاقة بين القرآن الكريم كنص إلهي مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والشعر كنص بشري يتراوح بين الخطأ والصواب والسامي والدوني، ثم يستعرض مسيرة الشعر العربي منذ التقليد في عصور الشعر الأولى، وحتى التجديد في عهد الدولة العباسية على يد بشار بن برد الشاعر الذي تؤسس الحداثة الشعر بعهده ص 76، ثم ظهور المدارس النقدية التي تناقش الحداثة الشعرية واتجاهاتها منذ البدايات وحتى عصرنا الحاضر حيث يمثل بؤرة التجديد الحداثي زماناً وفنية في بنية الشعر من 77. ثم يخلص إلى التمهيد للفصل الأخير والمهم في هذه الأطروحة حيث سيتعاطى نقدياً مع تفكيك تجليات الحداثة الإبداعية المعاصرة تفكيكاً يقارب فيه المفهوم والوظيفة.
ثم يصل المؤلف إلى خاتمة الكتاب التي تختزل مشروعه الكتابي لأنه كان
شاهد عصر على حداثة تبوأت مشهدنا الثقافي وقال عنها المتفقون السعوديون ما قالوا ومال البعض إليها وتخلى عنها البعض أما مؤلف هذا الكتاب فتجنب الخوض فيها وبدأ البحث في أصول الحداثة العربية ليجد حداثة عربية تراثية أصيلة ومستجدة أثارتها مستجدات العصر أكثر من مثيرات التراث العربي لها، وأن لنا حداثتنا المعبرة عن هويتها وروحها العربية الإسلامية، وأن حداثة الغرب في التغيير والتجديد الذي تقوم عليها والهدم طريق البناء .
وختاماً فهذا الكتاب رائع في محتواه، وجدير بالقراءة والاستفادة، لأنه من أستاذ باحث وناقد متميز (يرحمه الله) يمتلك المنهجية الناقدة العلمية والموضوعية بوعي واستبصار وهو حوار عابر هادي ومتزن يتكئ على الثوابت من الدين والتراث، لم يخض في التفاصيل، وإن كان قاربها وتداخل مع البنى والمفاهيم تداخل الباحث المدرك لمنزلقات الحداثة وتأويلاتها، وقد حاول إيصال مفهومه للحداثة العربية وفق تصوراته الإيمانية وحقق الغاية التي هدف إليها وهي البحث عن الأصول التي تجاهلها الآخرون (1) !!
* * * * * *
*واخيراً ،،، فإن الأستاذ الدكتور محمد مريسي الحارثي (يرحمه الله) كان ولم يزل في ذاكرتنا الجمعية قامة فكرية ونقدية تجذرت وتأسست في المحاضن الشرعية واللغوية ، فمن دار التوحيد بالطائف إلى كلية الشريعة في مكة المكرمة، ولذلك لا تعجب إذا قرأنا سيرته وعرفنا مسيرته ، وما وصل (رحمه الله) إليه من نبوغ وذيوع وانتشار، وعطاء فكري ونقدي يجتهد في إخراجه وطبعه وتقديمه للمشهد الثقافي السعودي خاصة والعربي عامة.
رحم الله الفقيد وأسكنه الفردوس الأعلى وأثابه على كل ما قدمه جنة ونعيماً ومرافقة الأنبياء والصالحين ،،،
والحمد لله رب العالمين.

• جدة

د. يوسف العارف

شاعر وناقد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى