
(1) جميلة هذه (الصابرة)، التي وجدت نتيجة صبرها، وعاشته وعايشته ولداً صالحاً باراً نخطَّىكل العقبات ونال أعلى الدرجات، وأعاد لأمه (صابرة) كل الأفراح التي افتقدتها منذ أيامها الأولىمع زوج قاسٍ، وأب غير مبالٍ، ورجل قلبه فُدَّ من حديد.. أو من صخر عنيد..!!
(صابرة)، (قصة) كما أكدها المؤلف في ميثاقه الأجناسي الذي بوأه مكان الصدارة في صفحةالغلاف الداخلي، والتي نشرت عن دار المفردات بالرياض في طبعتها الأولى عام1446هـ/2024م ومؤلفها الأستاذ/ الأديب/ مساعد حمزة القوفي، من أبناء أملج/ الحوراء.
وهذه القصة تقع في سبع وثمانين صفحة، وهي من نوع القصة الطويلة، وتقوم أحداثهاوفعالياتها على حدث واقعي تناقلته الأحاديث والأقاويل والروايات البدوية. وجاء الأديب الفنانالقاص (مساعد القوفي) لينقلها من أفقها الشعبوي الشفاهي إلى فضائها المكتوب والمنشور،فيضفي عليها من أسلوبه البلاغي، وفنياته القصصية وخيالاته الأدبية، ولغته الفصحوية،واستشهاداته الشعرية، ما يجعلها جنساً أدبياً مقروءاً ومنشوراً.
# # #
(2) تتمحور هذه القصة/ الحكاية، حول امرأة تزوجت رجلاً، وأنجبت منه ثلاثة أبناء، ولمَّا يزالوافي طفولتهم وضعهم في العراء تحت شجرة وحولها خباء لا سقف له، لم يترك لهم طعاماًـ ولميعرهم أي اهتمام، رحل عنهم وتزوج امرأة أخرى، وذات ليلة عاد لا ليطمئن على الزوجةوالأولاد، بل ليأخذ الخباء ويتركهم في العراء، ويعلن الطلاق والانفصال!!
وبدأت الزوجة رحلة العناء والعذاب وما هي إلا سنوات ويعود الأب الظالم ليأخذ الابن الأكبر،فتتقطع الأم من فقد بكرها وكبيرها بعد أن شبَّ عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال، لتبقى وحيدة إلامن طفليها الصغيرين.
ويبدأ المؤلف في سرد الحكايات والظروف التي عاشتها هذه الأم (صابرة)، حيث يموت طفلهاالصغير بالمرض، ويأتيها خبر موت ابنها الأكبر غريقاً في البحر.. وتتكالب عليها الآلام، ولم يبقلها إلا ولدها الثالث التي رعته العناية الإلهية، والناس الطيبون الذين احتووه وعلموه ورعوا أمَّهحتى أصبح رجلاً وعالماً وحاملاً للدكتوراه وأستاذاً في الكليات الجامعية!!
وتنتهي القصة بالرسالة الضمنية التي حملتها منذ البداية فالأم الصابرة ومع معاناتها الأوليةأخبرت أبناءها أنها لن تسامح أباهم الذي أورثهم هذه المعاناة!! ولكنها بعد أن عوضها الله فيابنها وانتقالها من البادية إلى المدينة وتغيرت أحوالها إلى الأفضل والأحسن، نسيت كل تلكالآلام وتوجهت إلى الرَّب الغفور وأعلنت مسامحتها لذلك الأب القاسي/ الأناني، بل وبنتمسجداً في تلك الديار البدوية عنها وعن زوجها وقفاً لله تعالى عن روحيهما. وتموت أخيراًصابرة محتسبة مسامحة وهذا هو الدرس الأخلاقي الذي تحمله هذه القصة!!
# # #
(3) وتبدو جماليات هذا المشروع الأدبي/ القصصي أولاً من صفحة العنووان وهي ما تسمىبالعتبة الموازية التي تقرأ نقدياً على أنها أول المعطيات التي توحي للقارئ بما في داخلالمجموعة القصصية.
فعلى صفحة الغلاف الأولي نجد على صدر الصفحة صورة لامرأة محجَّبة تحمل وليدها وعنيمينها وشمالها طفلين.. ولإبراز عوزهم وحالتهم المعيشية كانت أقدامهم حافية والتراب يحيطبهم من كل جانب.
ولتأكيد هذه الحالة المعيشية نجد في داخل القصة صوراً توثيقية تبين بعض جوانب القصةوالحالات التي تعيشها هذه المرأة وأولادها. فعلى الصفحة 13 نجد صورة الشجرة ويحيط بهارواق من بقايا بيت الشعر الممزق والبالي. وعلى الصفحة 19 نجد صورة الأم وهي تحمل متاعهاوأولادها متجهين لأقرب بيت يأوون إليه. وفي الصفحة 31 نشاهد صورة للأب والأم وهو يأخذولدها بالإكراه وهو يتمسك بها ولكن لا مناص من الذهاب به!!
وتتوالى الصور واللوحات الفنية المعبرة عن تمرحلات القصة وتحولاتها وكلها صور معبرة عنالفضاء النصِّي والقصصي وهذه إحدى جماليات القصة وفضاءاتها التعبيرية.
# # #
(4) ويبحر بنا المؤلف في ثنايا قصة واقعية زادها أسلوب المؤلف – الكاتب/ والباحث/ والأديب– رونقاً وجمالاً وإبداعاً. عبر اللغة المتزنة التي لا إسهاب فيها ولا إطناب. فيها الأفكار متسلسلة،والأحداث متوقعة، والشخوص متجانسة، والحبكة مقنعة. وهذه كلها من فنيَّات النَّص الحكائيالذي يتغيَّا التعليم والتوجيه والتربية، وتقديم الدرس والأخلاقيات والقيم في ثوب من الأدبوالقصة.
وتتجلى الجماليات اللغوية والأسلوبية في تلك الشواهد الشعرية التي يحلِّي بها المؤلففضاءات القصة: فيقول واصفاً ليل (صابرة) وأولادها الطويل، بليل امرئ القيس عندما قال:
وليل كموج البحر أرخى سدوله…. إلخ ص 16.
ويقول واصفاً الصباح بما قاله الشاعر إبراهيم ناجي:
وإذا الفجر مطل كالحريق…. ص17.
كما يستحضر المؤلف أبيات لابن زريق البغدادي، واصفاً حال (صابرة) وهي تفتقد وليدها الأكبرالذي أخذه والده عنوة:
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً… ص32.
وفي هذا دلالات ثقافية ولغوية وأدبية تزيد من جماليات القصة وأحداثها.
كما نجد بعض الأمثال والمقولات العربية مثل:
الليل ليل قرّ.. والريح ريح صرّ.. ص13.
ويزيد القصة جمالاً توظيف اللهجات الشعبية وبعض المفردات البدوية التي تقرب المفهوموالبيئة البدوية مثل:
هنَّابه، قربه، رحى، عصيدة، منيحه.. وغيرها.
وهكذا يجمع المؤلف بين جماليات الأسلوب واللغة والمضامين لتقريب الأحداث والشخوصإلى الأفهام القارئة.
ومع هذه الجماليات نجد أن عناصر القصة وفعاليات الأحداث لم تتنامى إلى الفضاءاتالقصصية الحديثة والمعاصرة والتي تجاوزت هذا المنحى القصصي، وآوت إلى سدرةالسرديات وفنياتها من عتباتية، وزمكانية، وتصوير، ووصف، وتخييل!!
ولعلي أقف مع عنصر (الزمكانية) في هذه القصة ودورها في إنجاح القصة وتجلياتها الفنية. فـ(الزمان) في قصة (صابرة) زمن ممتد.. من الماضي إلى المستقبل.. وليس فيه فنيات الزمنالاسترجاعي أو الزمن الاستباقي، والزمن المباغت، والزمن التحولي فـ(صابرة) زمنها منذ بدايةالقصة وحتى نهايتها زمن متتالي مستقبلي، لا نجد فيه زمناً استذكارياً، أو زمناً استرجاعياً (vad bak) أو زمناً استباقياً.
وهذه الزمنية المتتالية، تدخل المؤلف/ الكاتب/ القاص إلى ما يشبه اللغة الإخبارية والتقريرية. فمثلاً الأم وانتقالها إلى أقرب بيت وعملها ص ص20-29. والابن سهيل ومرض الكحيكحانوعلاجه الشعبي حتى وفاته ص ص ص 34-38. والابن عواد والعمل في البحر حتى الموت غرقاًص ص 38-40. والابن جابر وتعليمه من الابتدائي وحتى الغربة داخل الوطن والغربة خارجالوطن.. كل هذه الزمانات المتتالية أخرجت القصة وجمالياتها الأسلوبية إلى ما يشبه اللغةالتقريرية والإخبارية، ليس فيها تمرحلات زمنية، وفنيات قصصية تنقل القارئ من زمن ماضٍإلى زمن استباقي. ومن زمن داخلي/ نفسي إلى زمن تاريخي مستقبلي.
# # #
(5) وأما الجزء الثاني من (الزمكانية)، وهو المكان، فقد تنقل فيها المؤلف/ القاص بين ثلاثةأنواعٍ من (الأمكنة)، وهي:
1 – البادية، والتي لم تتضح معالمها الجغرافية أو اسمها المعروف، إلا من الصورة التي رسمهابالكلمات في مطلع القصة، ومن توظيف المصطلحات الشعبية/ البدوية المعروفة في شبهالجزيرة العربية شمالها وجنوبها.
2 – الواحات: وهي كذلك لم يعرِّف بها أو يسميها المؤلف، ربما لأنها غير ذات فاعلية في القصة.
3 – المدينة/ حيث ذكرت بدون تحديد دقيق ص22، وفي ص36 تبين أنها مدينة بحرية بدلالةالبحث عن عمل للابن وقال التاجر “ما عندنا عمل إلا البحر” ص36. ثم ذكرت (نجد) ص33 التيانتقل إليها بعض أهالي البادية. ثم تذكر مدينة (بورت سودان) ص41 التي ذهب البحارة إليهاليبيعوا محصولاتهم من خيرات البحر!!
ثم تتحدد (المدينة الساحلية) ص55 التي انتقل إليها الشاب جابر ليتعلم مع أبناء البتاجرحسن. وهنا تتضح بعض المعالم: الشوارع والطرقات، الأسواق، الإنارة بالأتاريك، الفول،التميس، “ مدينة حالمة هادئة “ ص56.
وفي هذه المدينة الساحلية نستذكر ما قاله المؤلف في مقدمته ص12: “ إن هذه القصة نمطمن أنماط المعيشة التي مر بها سكان سواحل جزيرتنا العربية في شمالها الغربي”!!
ثم تتحدد مدينة مكة المكرمة ومدرسة الأيتام ص59 وص65.
وبعد مدة تتنامى هذه (المكانية) من بادية إلى واحة إلى مدينة ساحلية، إلى مكة المكرمة،والآن يصل بنا المؤلف إلى دولة خارجية وهي (مصر) ص69 حيث معالمها من جامعاتوأهرامات والنِّيل، والسينما، والمدن الحضارية فيها: السويس، الطور، رأس غارب، الغردقة،سفاجة، القصير.. ص78. وتنتهي الرحلة (المكانية) بـ المدينة المنورة ص83-84..
إن هذه (الزمكانية) إحدى فنيات النَّص، وعناصره الكتابية، وقد أجاد المؤلف/ القاص في سردهذه (الأماكن) وإعطائها حقها من التوظيف والتصوير والتعريف!!
# # #
(6) والقصة فيها الكثير من الجماليات مثل التعاريف بالعادات والتراث والمهن والتي تحيل إلىالبادية ومأثوراتها الحضارية وهذا ما ينقل القارئ إلى (الواقعية) التي نعرفها في بلدان الجزيرةالعربية، ويؤكد لنا (واقعية) القصة وأحداثها في البيئة السعودية/ البدوية. وهذه مسألة نقديةمهمة، ولكن التفاصيل والتوسع يحتاج حيزاً أكبر ولكن ندع ذلك لقراءات نقدية قادمة، والقارئالحصيف سيقف على هذا كله ولا يحتاج منا إلى توضيح!!
وأخيراً فقد أسعدتني هذه القصة، وأفرحني الأخ مساعد القوفي/ المؤلف بأن أشركني فيمعايشة هذه القصة الاجتماعية، والتأثر بما فيها من أحداث ومواقف، دفعتني للكتابة عنهاوالتعريف بها. ولعل في ذذلك ما يوحي بالتثاقف الواعي بين ما يكتبه الكُتَّاب وما يقرؤه النقادوالمتذوقون على أمل الاستفادة والإفادة فيما يقدم من أعمال وكتابات!!
والله من وراء القصد..
والحمد لله رب العالمين.