كل من قرأ كتابي (لماذا تعتبر إيران عدوًا – وأعتقد أنهم قلة!) أو مقالاتي وترجماتي التي نشرت لي على مر سنوات عديدة في صحيفة “المدينة” واستبعدت فيها قيام حرب بين إسرائيل وإيران أو أمريكا وإيران أو أمريكا وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى لأنهم حلفاء سريون، ولأن ما بينهم ليس إلا منافسة على استحواذ أكبر قدر ممكن من النفوذ في المنطقة على حساب الأمة العربية – اعتقدوا أنني أخطأت بعد أن أثبتت الأحداث الأخيرة أن الحرب التي جرت مؤخرًا في المنطقة والتي كانت غزة وإسرائيل وحزب الله والحوثيين وأمريكا أطرافها الرئيسة- والتي هاجمت فيها إسرائيل وأمريكا في أطوارها الأخيرة إيران واستهدفوا مواقع المنشآت النووية والعديد من الأهداف الحيويةأعطى الدليل العملي على عدم صحة آرائي.
لكن دعونا أن نقف بعيدًا عن لغة العواطف والتعاطف، ونناقش ونحلل بتعمق الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة على مدى ستة عشر شهرًا بدءًا من السابع من أكتوبر 2023:
– كان السابع من أكتوبر نقطة تحول في تاريخ صراعات ونزاعات المنطقة، حيث لم تعد القضية الفلسطينية وحدها هي محور الصراع الوحيد، إنما أصبحنا نقف أمام حقيقة واضحة كالشمس، وهي أن العديد من المشكلات والقضايا التي أستجدت في المنطقة سببها عدم حل القضية الفلسطينية حلا عادلاً وشاملاً ودائمًا، وأنه طالما ظلت هذه القضية معلقة ومدرجة على جدول الأعمال في الأمم المتحدة فإن منطقة الشرق الأوسط لم تنعم بالسلام والأمن والاستقرار.
– رغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها غزة خلال الستة عشرة شهرًا الفائتة، إلا أنها في المقابل ألحقت خسائر جسيمة على المستويين البشري والمادي والمعنوي لدى الإسرائيليين. كما أن نتنياهو لم يعد ملاحقًا قضائيًا في إسرائيل وحدها، وإنما أيضًا من الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ورأى العالم كله الوجه القبيح لإسرائيل بلا أقنعة ولا مكياج كدولة أبارتهايد ودولة إبادة جماعية تستهدف الأطفال والنساء بشكل أساس.
– رغم تكرار رئيس الوزراء الإسرائيلي لمقولة أنه بصدد العمل على تغيير خريطة الشرق الأوسط، إلا أن التغيير الحقيقي الذي طرأ على المنطقة هو تعرض إسرائيل لدمار لم تسبق أن تعرضت له من قبل، وأنها شهدت بالتوازي نزوحًا من يهودها إلى أمريكا وأوروبا وقبرص هروبًا من القصف الصاروخي المتواصل.
– صحيح أن إسرائيل حققت انجازًا من خلال إضعافها لحماس وحزب الله واغتيالها العديد من قيادات التنظيمين، إلا أنها لم تنجح في القضاء عليهما، كما أنها فشلت في تحقيق أي من أهدافها الثلاثة التي وضعتها عشية حملة الإبادة التي شنتها على غزة ردًا على هجمات السابع من أكتوبر.
– وهنا ينبغي الإشارة إلى موقف إيران عندما كانت إسرائيل تستهدف بلا رحمة حماس وحزب الله، فقد اكتفت إيران بالمشاهدة عن بعد، وبات من الواضح أنها تخلت عنهما. وعندما شنت إيران هجومها الأول على إسرائيل استهدفتها بصواريخ وصلت إلى الداخل الإسرائيلي بعد نحو عشر ساعات!.
ورغم الحرب (الصورية) الإسرائيلية – الأمريكية ضد إيران، إلا أنه ينبغي الإشارة هنا إلى لغة الغزل بين الجانبين:
– رغم الهجمات الصاروخية المتبادلة واستهداف إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية إلا أن مفاعل ديمونة لم يصب بسوء، وإنما أستهدفت مواقع قريبة منه!.
– فور قيام الرئيس ترامب بالوساطة بين إيران وإسرائيل لوقف إطلاق النار وافقت تل أبيب وطهران على الفور!.
– رغم الهجمات الصاروخية الإيرانية على إسرائيل التي امتدت عبر قرابة عشرة أيام إلا أن عدد القتلى الإسرائيليين لم يتجاوز في المحصلة خمسة قتلى!- وهو ما يشكل نسبة ضئيلة من عدد الشهداء الذين يسقطون بالعشرات في غزة بشكل يومي. وقد لوحظ خلال جريان المعارك بين إيران وإسرائيل أنهما لا يتبادلان الهجمات في وقت واحد، فقد كان ثمة اتفاق: إسرائيل تضرب بالنهار وإيران تضرب بالليل (باستثناء يوم واحد!)، وهذا نهج مستغرب في الحروب!.
– اتضح فيما بعد ، وطبقًا للرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون أن ضربة ترمب لإيران هي من باب المجاملة لنتنياهو، وقد أبلغ الإيرانيين بالضربة قبل وقوعها من باب أنه يريد من الإيرانيين تمريرها له، وأنه أبلغ بصورة مباشرة نتنياهو وقيادات أمريكية بأنه فعل ما عليه وأنه يرفع يده عن الأمر. وقال إن إيران أفرغت كل المنتشآت النووية من اليورانيوم المخصب، ومن الأجهزة الأخرى قبل نحو شهر تقريبًا وأن فعلة ترامب هذه دعاية له، ولأنصار اللوبي الصهيوني في واشنطن. وأكد أن لدى إيران مصانع ومنشآت عسكرية سرية في كل أرجاء إيران ولا يمكن أن تطالها أي قوة جوية في العالم.
– قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب استهداف ايران قاعدة العديد في قطر إن إيران أبلغت الولايات المتحدة مسبقًا قبل شن هجومها الصاروخي على القاعدة، “وهو ما ساعد في تجنّب وقوع خسائر بشرية”. وكتب ترامب في منشور على منصة “تروث سوشيال”: “يسرني أن أبلغكم أنه لم يُصب أي أمريكي، ولم يحدث أي ضرر يُذكر. والأهم من ذلك أنهم تخلّصوا من الرغبة في الهجوم، ونأمل ألا يكون هناك مزيد من الكراهية”.
– ونأتي إلى طرح السؤال المهم: لماذا يتدخل ترامب لوقف إطلاق النار بين إيران وبين إسرائيل ولا يفعل الشىء نفسه في الهجمات الإسرائيلية الوحشية على غزة؟
أدعو لمن لا يزال يعتقد أن ثمة عداوة بين إمريكا وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى إلى قراءة كتابي: “لماذا تعتبر إيران عدوًا؟”، وكتاب تريتا بارسي “حلف المصالح”.

0