في ظل عالم مضطرب يتجه نحو التعددية القطبية، تبرز الشراكات الاستراتيجية كخيار لا غنى عنه للدول الساعية إلى ترسيخ مكانتها في النظام الدولي. وتُمثل العلاقة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الهند نموذجًا بارزًا لهذه الشراكات، لما تشهده من تطور لافت ومتسارع، بلغ ذروته بتشكيل مجلس الشراكة الاستراتيجية السعودي – الهندي، برئاسة سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظه الله -، ودولة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي. ويُعد هذا المجلس محطة فارقة في مسار العلاقات الثنائية، ونقلة نوعية تُجسد تطلعات البلدين نحو تعاون أوسع وأكثر تأثيرًا.
تاريخ عميق ومستقبل واعد
لقد نشأت العلاقات السعودية – الهندية على إرثٍ حضاري وتجاري ضاربٍ في القدم، إذ كانت الهند أحد الوجهات الرئيسية للقوافل التجارية التي كانت تمر عبر شبه الجزيرة العربية. تطورت هذه العلاقات خلال العقود الأخيرة إلى شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد، تجسدها المصالح المشتركة والرؤى المتقاربة تجاه القضايا الدولية. المجلس الاستراتيجي بين البلدين لا يعكس فقط رغبة البلدين في تعميق التعاون، بل يُمثل تحولًا نوعيًا في طريقة إدارة العلاقات الثنائية، عبر إطار مؤسسي فاعل يجمع السياسة بالاقتصاد، والثقافة بالأمن.
التعاون السياسي: استراتيجية لمواجهة التحديات
سياسيًا، تُدرك المملكة والهند أهمية تفعيل أدوات التعاون لمواجهة التحديات المشتركة في ظل واقعٍ دولي يتطلب بناء توازنات جديدة. فالسعودية، بصفتها محورًا للاستقرار في المنطقة العربية والإسلامية، والهند بصفتها قوة ديمقراطية آسيوية صاعدة، تتقاطع مصالحهما في ملفات محورية، مثل أمن الطاقة، والتغير المناخي، ومكافحة الإرهاب، والتوازنات في المحيطين الهندي والهادئ. على سبيل المثال، في عام 2021، ارتفعت التجارة بين البلدين بنسبة 20%، وهو ما يعكس التقدم الملموس في التعاون الاقتصادي والسياسي.
وتُظهر السياسة الخارجية للبلدين توجهًا نحو تنويع التحالفات وتجنب الانحياز إلى محاور محددة. فالهند تسعى للعب دورٍ أكثر تأثيرًا في النظام العالمي من خلال عضويتها في تكتلات مثل مجموعة البريكس، بينما تسعى المملكة إلى تعزيز استقلالية قرارها السياسي وتوسيع علاقاتها مع القوى الناشئة في آسيا. من هنا، فإن التعاون السياسي بين الرياض ونيودلهي يحمل بعدًا استراتيجيًا عميقًا، يُسهم في موازنة النفوذ الإقليمي، ويُعزز من قدرة البلدين على المساهمة الفعّالة في استقرار النظام الدولي.
الاتفاقيات الثنائية: ترجمة عملية للتعاون الاستراتيجي
تم خلال الزيارة التوقيع على الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التالية:
1- مذكرة تفاهم بين وكالة الفضاء السعودية وإدارة الفضاء الهندية في مجال الأنشطة الفضائية للأغراض السلمية.
2- مذكرة تفاهم بين وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية ووزارة الصحة والرعاية الأسرية في جمهورية الهند للتعاون في المجالات الصحية.
3- اتفاقية ثنائية بين مؤسسة البريد السعودي ووزارة البريد الهندية بشأن الطرود البريدية الخارجية الواردة.
4- مذكرة تفاهم بين اللجنة السعودية للرقابة على المنشطات والوكالة الوطنية لمكافحة المنشطات في جمهورية الهند، للتعاون في مجال التوعية والوقاية من المنشطات.
وتُعد هذه الاتفاقيات دلالة واضحة على انتقال التعاون من مرحلة التفاهمات إلى مرحلة التنفيذ العملي المؤسسي، بما يعكس جدية الطرفين في بناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد.
الاستثمار والتكامل الاقتصادي: شراكة تتجاوز الأرقام
قفزت الهند من المرتبة الخامسة إلى الثانية ضمن الشركاء التجاريين للمملكة، وبلغ حجم التجارة البينية نحو 700 مليار ريال خلال خمس سنوات، فيما جاءت المملكة في المرتبة السابعة لصادرات المنتجات والخدمات الهندية. وقد شهدت الاستثمارات الهندية في المملكة نموًا سنويًا بنسبة 460%، وأصبحت الهند من بين دول مجموعة العشرين الأكثر استثمارًا في المملكة. كما قامت 40 شركة هندية بنقل مقراتها الإقليمية إلى المملكة، في خطوة تؤكد جاذبية السوق السعودية ورؤية المملكة الاقتصادية المستقبلية.
يُضاف إلى ذلك أن كلا البلدين يتطلعان إلى تعزيز استثماراتهما المتبادلة، حيث يتم العمل على تسهيل بيئة الأعمال وتنفيذ مشاريع مشتركة كبيرة من خلال صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي يُعد لاعبًا رئيسيًا في دفع الاستثمارات الهندية إلى المملكة، وكذلك توسيع نطاق استثمارات الشركات السعودية في الهند. ويتوقع أن تزداد الشراكات في مجالات مثل التكنولوجيا الخضراء، والصناعة التحويلية، والتكنولوجيا المالية، مما يُعزز التكامل التجاري بين البلدين ويُقوّي مكانتهما الاقتصادية على المستوى الدولي.
التعاون الإقليمي والإنساني والثقافي: بناء جسور بين الشعوب وتعزيز الاستقرار
أما على المستوى الإقليمي، فتسعى السعودية والهند إلى توسيع دائرة التنسيق السياسي حيال قضايا مثل أمن بحر العرب، واستقرار جنوب آسيا، والتوازن في العلاقات مع باكستان. ورغم وجود تباينات في بعض الملفات، إلا أن طبيعة العلاقة بين البلدين تقوم على احترام السيادة، والانفتاح على الحوار، والتعامل الواقعي المبني على المصالح المشتركة.
ولا يمكن إغفال البعد الإنساني والثقافي في هذه العلاقة، حيث تُعد الجالية الهندية في المملكة من أكبر الجاليات الأجنبية، إذ يزيد عددها عن 2.5 مليون شخص، وتُسهم بشكل فعّال في عجلة التنمية، خاصة في قطاعي البناء والخدمات. كما أن التعاون الأكاديمي والعلمي بين المؤسسات في البلدين يشهد تطورًا ملحوظًا، ما يعكس رغبة متبادلة في تعميق التفاهم الثقافي والاجتماعي، وهو ما تجسد في تنظيم فعاليات ثقافية وفنية مشتركة بين البلدين، بالإضافة إلى عدد من المبادرات في مجال التعليم والبحث العلمي.
دور المملكة في مجموعة العشرين وممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا: استراتيجية الربط والتنمية
تبرز المملكة العربية السعودية اليوم كلاعبٍ محوري في تشكيل التوازنات العالمية، من خلال دورها القيادي في مجموعة العشرين، وكونها شريكًا فاعلًا في مبادرات عالمية ذات بعد استراتيجي. ومن بين أبرز تلك المبادرات، مشروع “ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا”، الذي أُعلن عنه خلال قمة العشرين في نيودلهي عام 2023، ويهدف إلى تعزيز الربط اللوجستي والرقمي بين القارات الثلاث.
ويُعد هذا الممر تعبيرًا عن رؤية طموحة تُعزز من مكانة المملكة كمركز إقليمي للنقل والطاقة والتجارة، ويربط الهند بأسواق أوروبا عبر الخليج العربي والمملكة. كما يُجسد المشروع مبدأ التنويع الاقتصادي والتكامل الإقليمي، ويعزز مكانة المملكة باعتبارها همزة وصل جيوسياسية واقتصادية بين الشرق والغرب. ولا شك أن تعاون المملكة والهند في هذا الإطار يفتح آفاقًا رحبة لشراكة تتجاوز البُعد الثنائي، وتسهم في صياغة مستقبل اقتصادي عالمي أكثر ترابطًا واستدامة.
الآفاق المستقبلية: شراكة تضمن التوازن الدولي
إن مجلس الشراكة الاستراتيجية السعودي – الهندي ليس فقط منصة للتنسيق، بل هو نموذج لتحالف ناضج ومتعدد الأبعاد، يجمع بين قوة الرؤية السياسية وواقعية المصالح الاقتصادية. إنه إعلان عن شراكة ترتكز على الاستقلال، والاحترام المتبادل، وتكامل الأدوار في عالم لم يعد يحتمل العلاقات الهشة أو التحالفات الظرفية.
وفي ضوء قيادة سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظه الله -، ودولة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، لهذا المجلس، فإن العالم أمام تجربة جديدة في العلاقات الدولية، تقوم على الندية والتعاون المستدام، وتُسهم في بناء نظام عالمي أكثر توازنًا وعدالة، يُراعي مصالح الشعوب، ويستجيب لتحديات العصر بفاعلية وشجاعة سياسية.
ومن المتوقع أن تشهد هذه العلاقة تطورًا مستمرًا خلال السنوات القادمة، من خلال إبرام اتفاقيات جديدة في مجالات الدفاع، والتكنولوجيا، والتعليم، إلى جانب تعزيز التنسيق في القضايا المرتبطة بالأمن الدولي، بما يُسهم في ترسيخ الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
إن ما يجمع الرياض ونيودلهي اليوم ليس فقط مصالح مشتركة، بل رؤية مشتركة لعالمٍ أكثر توازنًا واستقرارًا.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخراً للإسلام والمسلمين.
أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة