في زمنٍ تتسابق فيه الدول على امتلاك أقوى الخوارزميات، وأذكى النماذج اللغوية، وقواعد البيانات الأكبر، قررت المملكة العربية السعودية أن تُحدث فرقًا. لم تكن المسألة مجرد دخول إلى مضمار الذكاء الاصطناعي العالمي، بل إعادة تعريف لماهية الذكاء ذاته، حتى يكون “سعوديًا، عربيًا، عالميًا، واستثماريًا، وإنسانيًا”.
أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، في 12 مايو 2025، عن إطلاق شركة “هيوماين” (Humain). الإعلان جاء مقتضبًا في الشكل، لكنه غني بالرسائل، بدءًا من الاسم ذاته: “هيوماين”.
سمعت عن الخبر بعد دقائق من الإعلان الرسمي، من خلال مكالمة هاتفية كنت أتناقش فيها مع أحد المثقفين السعوديين حول أهمية الذكاء الاصطناعي في الإعلام. أنهيت الاتصال مباشرة، وفتحت مصادر الأخبار لأقرأ التفاصيل. في تلك اللحظة، كان الجميع يتحدث عن “هيوماين”، مواقع التواصل تضجّ بالخبر، والفرحة العارمة كانت حاضرة في كل تعليق وتحليل. وجدت، مثل غيري، أن كل شيء في الإعلان لافت، لكن الاسم جذبني بشكل خاص، مما دفعني للبحث عن معناه.
اكتشفت أنه ليس مجرد اختيار لغوي، بل يحمل دلالات مركّبة. فهو يشبه في نطقه كلمة (Human)التي تعني (الإنسان)، ويلامس في إيقاعه كلمة (Humane) التي تحيل إلى “الأخلاق والرحمة”. قد لا يكون هذا المعنى مُصرّحًا به رسميًا، لكن طريقة بناء الاسم توحي بما يكفي: أن هذه الشركة تُعيد الإنسان إلى مركز المعادلة الأساسية، لا على الهامش، وأنه هو من يوجّه ويدير الآلة، لا العكس.
ومن الاسم إلى الفعل، لم تتوقف “هيوماين” عند حدود الرمزية، بل انطلقت برؤية طموحة وسط سباق عالمي لا يتباطأ وظهور نماذج ذكية من شركات عالمية، لم تكن “هيوماين” مجرد محاولة للحاق بالركب، بل جاءت كمشروع سعودي، عربي، استثماري، وعالمي يحمل طرحًا مختلفًا، يتجاوز فكرة التفوق التقني إلى طرح سؤال أعمق: هل ما زال الإنسان السعودي العربي حاضرًا في قلب هذه التقنية؟أم أن الحاجة أصبحت ملحّة تفهمنا بلغتنا، وتستوعبنا بثقافتنا؟
ولذلك، فإن “هيوماين” لا تسعى فقط لبناء مترجم ذكي، بل نموذج يُدرك المعنى والسياق الثقافي بدقة. إنها تتجاوز وظيفة “الترجمة” إلى بناء ذكاء يُحاكي تفكيرنا، ويستوعب تعقيدات لغتنا. وفي الوقت ذاته، تضع المملكة في قلب التنافس الاستثماري العالمي، لا كمستهلك للتقنية، بل كصانع لها ومؤثّر فيها.
ولا يقف طموح المشروع عند اللغة، بل يمتد إلى بنية التقنية ذاتها. في عالمٍ تتحوّل فيه البيانات إلى ذهب، جاء إعلان ولي العهد ليؤكد أن هذه التقنية ستُبنى داخل المملكة، على أسس وطنية، وبمخزون بيانات محلي، وبنية تحتية سعودية تعزز السيادة والاستقلال الرقمي.
ومن اللافت أن الرؤية لا تكتفي بالجوانب التقنية، بل تشمل تمكين الابتكار، وتطوير القدرات المحلية في مجالات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب توسيع استخدامات التقنية في قطاعات حيوية مثل التعليم، والصحة، والخدمات المالية، والصناعة. وهو ما يعكس تصورًا شاملًا لمنظومة وطنية مستقبلية، ترى في الذكاء الاصطناعي فرصة لإعادة بناء الاقتصاد، والمساهمة في صناعة المعرفة عالميًا.
وهنا يمكن القول إن “هيوماين” ليست مجرد شركة تقنية، بل مشروع وطني كبير، يقدّم للعالم تصورًا سعوديًا، عربيًا، عالميًا، استثماريًا، متكاملًا للذكاء الاصطناعي. ذكاءٌ يفهم الناس، ويتكلّم بلغتهم، ويستمد قيمه من هويتهم. هي التجربة التي تُعيد رسم ملامح التقنية بلغة تنطق بلساننا، وروح تحمل توقيعنا.
•أكاديمية متخصصة في الإعلام الرقمي، ومدرّبة في مجال الذكاء الاصطناعي