تختلف المسميات والمفاهيم التي تصف الحوكمة والتي تصب في نهايتها كنظام يضمن الشفافية، المساءلة، العدالة، والكفاءة في اتخاذ القرارات داخل المنظمة، وقد تبلور هذا المفهوم بصيغته المعاصرة في تسعينيات القرن الماضي، كرد فعل على أزمات مالية مدوية، وفضائح حوكمة في كبريات الشركات الأميركية، كشفت عن اختلالات جوهرية في الرقابة والشفافية، ما دفع إلى ترسيخ قواعد صارمة تهدف إلى تعزيز الثقة وحماية المستثمرين وهو ما عرف “بالحوكمة”..
غير أن ما يدعو للتأمل اليوم هو ذلك الفهم المغلوط الذي ربط الحوكمة بكثرة التواقيع في ذيل كل ورقة، وتضخم الإجراءات بحجة فصل الصلاحيات ، وتشكيل اللجان على كل شيء، وفي أي شيء، وعن أي شيء ، تحت ذريعة “تحسين القرار” فباتت بعض الإجراءات والمهام تتحول إلى ما يشبه خريطة الكنز لإتمامها، مما أربك المسار البسيط لأي مهمة يمكن إنجازها بمجرد مكالمة هاتفية، ويتم التعذر لكل ذلك بعذر متطلبات الحوكمة والامتثال وضبط العمليات.
إن هذا النموذج من الرقابة المفرطة لا يعكس الحوكمة بقدر ما يكرس البيروقراطية، ويعيدنا لمشهد ” راجعنا بكرة ” و “المعاملة تحت التوقيع” الذي لطالما أعاق الكفاءة، وخلق بيئات طاردة للإبداع والإنجاز، فالخلط بين الحوكمة بوصفها أداة لضبط الأداء وتحقيق الفاعلية، والبيروقراطية باعتبارها سلوكًا إجرائيًا معطلًا، هو خلط خطير يعيد التنظيم إلى نقطة الصفر.
وتشكيل اللجان لمواجهة أي قرار ، وأمام كل موقف يذكرني بمقولة الراحل غازي القصيبي رحمه الله اذا أردت أن تميت موضوعاً فشكل له لجنة، وأخشى لو كان بيننا اليوم أن يقول فشكل له حوكمة ، بينما ذهب بعض المفكرين إلى القول «اللجان هي كزوايا الشارع المظلمة حيث تقتل الأفكار وتُسبى المشاريع”، ورغم رفضي الإفراط في تشكيل اللجان ذلك لا يعني إنكار ضرورتها حين فقط تضيف قيمة حقيقية، كما في لجان التدقيق المالي، وإدارة المخاطر، والترقيات والمكافآت. أما اللجان الشكلية التي تُستحدث بوصفها ردة فعل ما هو إلا فهم قاصر للحوكمة، فلا تمثل سوى عبء إداري يبدد الجهود ويضاعف التعقيد.
الرقابة الفعّالة لا تكمن في عدد التواقيع، بل في وضوح الأدوار، وتحديد الصلاحيات، ووجود آليات دقيقة للمساءلة. فالحوكمة ليست في “كمّ الإجراءات”، بل في “جودتها”، ولا في “تعقيد القرار”، بل في “تحسينه”. ومتى ما تحولت الحوكمة إلى منظومة مرنة تعتمد على أنظمة إلكترونية متقدمة، تُوثق وتُفعل الأدوار الأساسية فقط وضع تحت ذلك خطاً بضغطة زر، فإنها تحقق غايتها بأقل التكاليف وأكثر درجات الكفاءة. الحوكمة الحقيقية هي تلك التي نسري من اعلى الهرم عند مجلس إدارة يضم أعضاء مستقلين ذوي خبرة عالمية، بما يضمن توازن القرارات وشفافية التوجيه الاستراتيجي، وفي أدنى الهرم عند حوكمة طريقة التوظيف وإجراءات التعيين
في النهاية، يكمن التحدي الحقيقي في منع تحوّل الحوكمة إلى التزام شكلي يُفرغها من مضمونها، وفي إيجاد التوازن الدقيق بين الرقابة والمرونة، بما يرسّخ الفهم العميق لغايات الحوكمة وفق السياق المؤسسي والاستراتيجيات الأساسية للجهة .

0