لم تكن لحظة إعلان النتائج في آيسف مجرد إعلان أسماء… بل إعلان أُمّة.
مشهدٌ تتباطأ فيه الأنفاس، لا لأن الوقت يتأخر، بل لأن الزهو يسبق الكلمات.
فتيات سعوديات يَسِرن بثوبٍ أبيض نقيّ، لا يُشبه ما يرتديه الآخرون…
لأنّه لا يُلبَس، بل يُحمَل، كما تُحمَل القيم: بهدوء، بثبات، بعزّة.
شبابٌ بالبشت والغترة والعقال، ليسوا زيًّا يرتديه الجسم، بل مشهدًا ترتديه الرؤيا.
كأنك ترى الوقار يمشي على الأرض.
تأمّل رؤوسهم… ليست مغطّاة فحسب، بل مرفوعة.
فهذا غطاء الرأس الذي لا يُخفي، بل يُعرّف.
الذي لا يُستخدم لتشابه، بل لتفرّد.
هو زيٌّ لا يُساوَم عليه، لأنه ليس من خيوط… بل من جذور.
ثم تسمعها…
تُقال كما تُقال الشهادة:
“From Saudi Arabia.”
تخرج من فم المذيع، لتدخل في قلب كل سعودي.
فتشعر أن العبارة ليست وصفًا للدولة… بل تأكيدًا للمصير.
هوية تمشي، لا تختبئ… بل تتقدّم بثقة.
ثقافة لا تتقمص غيرها… بل تُبهر العالم بذاتها.
فكل اسمٍ نُودي عليه في آيسف، لم يُمثّل وطنه فقط… بل جسّده.
لكن كيف وصلنا؟
لم تكن هذه القفزة المعرفية حظًا عابرًا، بل صنيعة وعي، ورهان دولة على عقل الإنسان.
بدأت الرحلة من إيمانٍ بأن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع.
وُلدت رؤية لم تُعلّق على الجدران، بل زُرعت في تضاريس الوطن: من بحره وصحرائه، من تنوّعه البيئي والثقافي، من طموح شبابه ورسوخ قيمه.
استثمرت المملكة في الإنسان قبل البنيان.
أطلقت برامج لا تكتفي باكتشاف الموهبة، بل ترعاها وتدفعها لتنافس.
وخلقت بيئة معرفية محفزة، تربط بين التعليم وسوق الابتكار، وتفتح نوافذ التجربة لا أبواب التلقين.
تحت قيادةٍ آمنت أن ما نزرعه اليوم… سنراه على منصات العالم غدًا.
ودربت الشباب على القيادة، لا بالشعارات، بل بالتمكين والتخصص الدقيق.
اكتشفت القادة من كل قرية، ومكّنتهم، وحاسبت من أخطأ،
فلا مجاملة أوقفت المسار، ولا عاطفة أغلقت باب الكفاءة.
وها نحن نراه:
في آيسف 2023، 27 جائزة منها 7 كبرى.
في 2024، 27 جديدة، منها 18 كبرى.
وفي 2025، 23 جائزة، منها 14 كبرى، وسط 70 دولة.
لم تكن هذه إنجازات متفرقة، بل نتائج متصلة بسلسلة منطقية بدأت من قرار… وبلغت القمة.
لكن الإنجاز لم يقف عند الأرقام.
فحين تُستعاد العُلا كتحفة للتاريخ، وتُبعث الدرعية كقصيدة للهوية، وتُبنى القدية كأفق ترفيهي لا حدود له،
وحين تُطل تروجينا من فوق الجبال، ويكسو جبل اللوز ثوبه الأبيض،
وتتفتح عسير وجازان والطائف على مشاريع تتكلم بلغة الغد…
ندرك أن ما جرى في آيسف ليس معجزة لحظة، بل ثمرة مسار.
ومع كل هذا الحراك الأرضي، كان هناك سر سماويّ لا يُغفل:
أن هذه الأرض، لم تُستعمر يومًا.
لم تُدنّس، لم تُقهر، لم تُعاد هيكلتها كما شُوّهت أوطان غيرها.
بل حُفظت، كما يُحفظ الشيء الثمين.
ما ارتفعت لأنها سقطت ثم نُهضت، بل لأنها حُفظت فلم تنكسر.
ومنذ أن خُصّت بخدمة الحرمين، وعُمرت بالرسالة، ظلت في عين الله، وفي قلب النور.
ولهذا، نحن لا نباهي فقط بنهضتنا، بل نشكر الله على نعمة الاستثناء.
فما نحن فيه من عزّ، ليس بذكائنا وحده، بل برحمته.
وما نحن عليه من موقع، لم يُشترَ بالمال، بل أُهدي بالدعاء.
وهذا الفضل، لا يزيدنا إلا خشوعًا… وشكرًا.
فالأمر أكبر من تنمية، إنه استمرار لرسالة.
منذ أن دعا إبراهيم: “فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم…”
والأفئدة تهوي فعلًا.
علماء، تجار، حجاج، ومرّ بها النبي إبراهيم عليه السلام، وسكنها إسماعيل عليه السلام، وبُعث منها محمد صلى الله عليه وسلم… فهل بعد ذلك شرف يُضاهى؟
لم تكن مكة والمدينة مقصدًا للجغرافيا فقط، بل للمعنى.
وهكذا، كانت أرض الرسالة، ومهد الفكرة، ومنبر التوازن بين الإيمان والعمل.
رؤية 2030 لم تأتِ لتستنسخ نماذج الآخرين، بل لتُطلق ما هو أصيل فينا.
رؤية احترمت البيئة، ورفعت الإنسان، وكرّمت الجذور،
واستبقت المستقبل لا بنسخ غيرنا، بل بصناعة ذاتنا.
رؤية جمعت في قلبها: الرسالة، والوحي، والضيوف، والضاد، والضوء.
احترمت النور الذي نزل في هذه الأرض،
والحرف الذي بُعث به النبي،
والزائر الذي يُكرم دون أن يُسأل عن عِرقه أو لونه،
واحترمت العقل… لأنه بوابة النهوض، وسقف الحماية من الجهل والاستلاب.
وفي وسط هذا النسق الفخم، لم يكن مشهد الطفل السعودي الذي وضع يديه على صدره، محاكيًا سمو ولي العهد، مجرّد لحظة لطيفة…
بل كان تعبيرًا نقيًا عن مدى سرعة الانتماء، وعفوية الولاء.
إيماءة خرجت من قلب الأمير، واستقرت في قلب الجيل، دون أوامر ولا دروس.
رمز لا يُشرح… بل يُحس.
كأن اليدين تُوقّعان على صدر الطفل:
أنا للسعودية… والسعودية لي.
وهكذا، أصبحت حركة اليدين…
بوصلةً لجيل، ورايةً لمسيرة، وشعارًا لأمّة…
صعدت من الخيمة إلى المنصة، ومن البئر إلى القمة