في أحضان البحر الأحمر، حيث تتراقص الأمواج على إيقاع التاريخ، تقف جدة شامخة، مدينة تتنفس عبق الماضي وتحلم بآفاق المستقبل. ليست مجرد ميناء يعانق السفن القادمة من أصقاع الأرض، بل هي قلب نابض يروي حكايات الأجداد، محفورة في أسواقها العريقة، ومبانيها التي تعانق الرواشين الخشبية ضوء الشمس. وها نحن اليوم، نحتفي بمرور قرن كامل على تلك اللحظة الميمونة التي دخل فيها الملك عبدالعزيز آل سعود – طيب الله ثراه – جدة في عام 1344هـ (1925م)، ليسطر بذلك فصلًا جديدًا في تاريخها، حيث تحولت من مدينة محاطة بأسوار إلى مركز اقتصادي وحضاري ينبض بالحياة.
مرت جدة بثلاث مراحل مفصلية في تاريخها، شكّلت ملامحها ورسّخت مكانتها عبر العصور. كانت البداية مع الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – الذي أمر في عام 26هـ بجعلها الميناء الرئيسي لمكة المكرمة، بديلًا عن ميناء الشعيبة، فأصبحت منذ ذلك الوقت بوابة الحجاز البحرية، يعبر منها الحجاج والتجار والعلماء، وتنمو في أحضانها الحياة التجارية والثقافية. ومع ازدياد أهميتها، تعرضت جدة لمخاطر خارجية، مما دفع حكامها إلى بناء سور حجري في القرن العاشر الهجري لحمايتها من الغزوات والقرصنة البحرية، وبذلك أصبحت مدينة محصورة داخل مساحة لا تتجاوز كيلومترًا مربعًا، محاطة بثمانية أبواب رئيسية تفتح صباحًا وتغلق عند الغروب، وأبرزها باب مكة، باب شريف، باب المدينة، وباب البنط، تحرس حاراتها الأربع: حارة المظلوم، حارة الشام، حارة اليمن، وحارة البحر، التي كانت كل منها تمثل مزيجًا ثقافيًا واجتماعيًا يعكس تنوع سكانها.
ثم جاءت المرحلة الثانية، حين دخل الملك عبدالعزيز جدة في دخول ميمون عام 1344هـ (1925م)، بعد سنوات من الترقب. لم يكن دخوله مجرد لحظة سياسية، بل كان نقطة تحول أعادت تشكيل مستقبل المدينة. في ذلك الوقت، كانت جدة لا تزال تعيش خلف أسوارها، تحتمي بها لكنها في الوقت ذاته تعيق توسعها. ومع رؤية القائد، تقرر إزالة السور الحجري، ليس فقط كحاجز مادي، بل كرمز لانطلاق المدينة إلى آفاق جديدة، حيث بدأ عصر التوسع العمراني والنمو الاقتصادي، وتحولت جدة إلى مركز رئيسي للملاحة والتجارة، تستقطب السفن والتجار من مختلف أنحاء العالم، وتهيئ نفسها لدور جديد في المملكة الفتية.
في قلب جدة التاريخية، يروي بيت نصيف قصة تلك الأيام العظيمة. شُيّد هذا المعلم عام 1289هـ (1872م)، وكان ملكًا للشيخ عمر أفندي نصيف. يتميز البيت بطرازه المعماري الفريد، حيث بني من الأحجار المرجانية، وزينت نوافذه الرواشين الخشبية التي تعكس الطابع الحجازي الأصيل. وعندما دخل الملك عبدالعزيز جدة، اتخذ من بيت نصيف مقرًا لإقامته لمدة عشر سنوات، حيث استقبل فيه الوفود، واتخذ منه نقطة انطلاق لترسيخ حكمه في الحجاز. وأمام البيت، تمتد برحة نصيف، الساحة التي كانت تضج بالحياة التجارية والتجمعات الاجتماعية، لتظل شاهدة على العصر الذهبي لجدة القديمة.
واليوم، بعد مئة عام من دخول الملك عبدالعزيز، تعيش جدة المرحلة الثالثة من تحولها، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله -، ضمن رؤية المملكة 2030، التي أعادت رسم ملامح المدينة. لم يكن التطور الذي تشهده جدة مجرد توسع عمراني، بل كان إعادة إحياء لروح المدينة القديمة، حيث يتم ترميم البيوت والأسواق التاريخية ضمن مشروع “إحياء جدة التاريخية”، الذي يهدف إلى إعادة بريق تلك الحارات القديمة، وتحويلها إلى معالم سياحية وثقافية حية. وفي الوقت نفسه، تشهد المدينة نهضة معمارية كبرى، تتجلى في مشاريع ضخمة تعيد رسم ملامحها، حيث تضم المشاريع الجديدة، التي تكتمل مرحلتها الأولى عام 2027، دار أوبرا، متحفًا، استادًا رياضيًا، وأحواضًا محيطية مع مزارع مرجانية، إلى جانب مشاريع ترفيهية وسياحية نوعية، ومناطق سكنية تضم 17 ألف وحدة، وفنادق بأكثر من 2700 غرفة، مما يجعلها وجهة عالمية متكاملة. كما تستضيف جدة أحداثًا رياضية كبرى مثل سباق الفورمولا، ونادي اليخوت والمسابقات البحرية العالمية، والتاكسي البحري، التي تعزز مكانتها كمركز للرياضات والترفيه على مستوى العالم.
لقد ظلت جدة على مر العصور أكثر من مجرد مدينة ساحلية، بل كانت دائمًا نقطة التقاء للحضارات، وما نشهده اليوم هو امتداد لتاريخها العريق. تعود روحها القديمة للظهور في أبهى صورها، لكن بلمسة معاصرة تجعلها أقرب إلى المستقبل من أي وقت مضى. فالهدف لم يكن فقط تطوير بنيتها التحتية، بل إعادة تشكيل تجربة الحياة فيها، بحيث يشعر زائرها وساكنها أنه يعيش داخل مدينة تحافظ على تاريخها، وتقدمه بأسلوب حديث يتناسب مع تطلعات الحاضر.
ومع كل هذا التجدد، تبقى جدة وفية لهويتها، ففي أسواقها القديمة ما زالت الحكايات تتناقل، وفي معالمها التاريخية كبيت نصيف وبرحته، ما زالت ذكريات الماضي تتردد. لكنها اليوم مدينة عالمية، حيث تتلاقى الثقافات وتتعانق الأحلام، لتصبح جسراً بين الماضي والمستقبل. وبعد قرن من الدخول الميمون للملك عبدالعزيز، تقف جدة شامخة، تحمل بصمة القيادة الحكيمة، كمدينة تتطور ولا تتوقف عن التجدد، ولكنها في روحها لا تتغير، لأنها ببساطة… جدة.