
من أوائل ما استهواني من أبيات الشعر العربي -في مرحلة الصبا الباكر- على مستوى غرابة المعنى المندسّ في باطن ألفاظه بيتٌ عجيبٌ (لابن الخطفى جرير) الشاعر الأموي المرموق.
وقد جاء في سياقِ «قصيدة عينيةٍ» ،
هي في اعتقادي من غُررقصائده.
أذكر أنني عشتُ زمناً غير قصير يساورني الظنُّ أن ذلك البيت المجنّح للمتنبي وماذلك إلا لأنَّه ورد في أحد المناهج الدراسية منسوباً إليه!!
كان البيت منفرداً منقطعاً عن سربه لاح لي مجرد شاهد بلاغي ،زُجّ به
كمثال مقرون بتمرينات الأساليب الإنشائية لاستخراج (أداة التمني )على الأكثر.
تبدَّى البيت الشعري وقتذاك شريداً بلاوطن يأويه ولا من يدٍ مهتمّة بالأدب والشعر فتقرنه (بوحدته العضوية) المنزوع منها انتزاعاً!
ديوان الشاعر هو المأوى له والمرجع لإشكالية كهذه،ولكن أين مني ذلك المرجع في قريةٍ نائية عن المكتبات طعامها الأبيضان :(الماء والملح)؟!
وانتهى بي الأمر أنْ أسمّى ذلك البيت:«بيت التمني» لاعتماده على الأداة «ليت» الدالّة على التمنّي الممكن وغيره.
وهاكم البيت:
فَلَيتَ رِكابَ الحَيِّ يَومَ تَحَمَّلوا
بِحَومانَةِ الدَرّاجِ أَصبَحنَ ظُلَّعا!
وقبل محاولة إزاحة الستار ونفض الغبار وسرد الملابسات بشأنِ البيت يُستحسن إيراد مطلع القصيدة باعتبارها مأواه الذي كان مفقوداً أوباعتبارها السياق الضروري المنصوص عليه في القراءات الجادَّة.
فإلى المطلع إذن:
أَلا لا تَلوما القَلبَ أَن يَتَخَشَّعا
فَقَد هاجَتِ الأَحزانُ قَلباً مُفَزَّعا
وَجودا لِهِندٍ بِالكَرامَةِ مِنكُما
وَما شِئتُما أَن تَمنَعا بَعدُ فَامنَعا
وَما حَفَلَت هِندٌ تَعَرُّضَ حاجَتي
وَلا نَومَ عينَيَّ الغِشاشَ المُرَوَّعا
بِعَينِيَ مِن جارٍ عَلى غُربَةِ النَوى
أَرادَ بِسُلمانينَ بَيناً فَوَدَّعا
لَعَلَّكَ في شَكٍّ مِنَ البَينِ بَعدَما
رَأَيتَ الحَمامَ الوُرقَ في الدارِ وُقَّعا
كَأَنَّ غَماماً في الخُدورِ الَّتي غَدَتْ
دَنا ثُمَّ هَزَّتهُ الصَّبا فَتَرَفَّعا
((فَلَيتَ رِكابَ الحَيِّ يَومَ تَحَمَّلوا
بِحَومانَةِ الدَرّاجِ أَصبَحنَ ظُلَّعا))!
________________________
«قصتي القديمة مع هذا البيت»
كنت أحدِّق في ذلك البيت محاولاً استكشاف معناه المتواري في ظل قلة المحصول المعرفي العائد لطبيعة تلك المرحلة الدراسية وافتقاري وقتذاك إلى المعجمات المساعدة المضطلعة بالكشف الدقيق عن المفردات العربية ،تارةً أمعن النظر إليه في سياقه السابق وعلاقته بسائر أبيات القصيدة وألحظ انتقاله من “كأنّ “إلى “ليت “”وقبلهما مباشرة لعل_وهن شقيقات في “الوظيفة النحوية” كما نعلم_،وتارة أخرى كنت أقف وقفة الذاهل المسحور أمام صورة “غمام في الخدور”،فأستحضر -وفق المتاح من جموح الخيال يومئذٍ -مشهد “السحائب الكثيفة”وأربطها فوراً بمشهد اﻵنسات “المقصورات في الخيام” -طبقاً للتعبير القرآني- باعتبار أن “الخدور” تعني “الخيام” والحسناوات المقيمات في جنباتهنّ هنّ اللواتي خطفنَ لبَّ الشاعر واستولين عليه وألهبن أحاسيسه باللوعة والشجن والصبابة وطول الانتظار .!
كنت أحاول-جاهداً- أن أتلمس العلاقة بين المشهدين وأعود ثانية لالتقاط عقد الصورة المتناثر :
-صورة السحائب الكثيفة الدانية المؤذنة بالمطر وقد بعثرتها ريح الصَّبا إلى أن تشكّلتْ في عنان السماء .
-صورة الغزلان الإنسيّة وهن يخرجن من خيامهنَّ مسرعاتٍ متخفيّات لامتطاء الرواحل المتأهبة بدورها لقطع البراري الشاسعة والقفار الموحشة استجابةً لنداء الرحيل المرتبط عادة بالبحث عن مواطن الكلإ والعشب والبقاع المخضرّة .
هذه الصورة المركّبة فعلت بي يومذاك – “فعل السحر” وبالتعبير الشعبي يمكن أن أقول عنها (دوَّختني سبع الدوخات)في ذلك العهد القديم.
وكنتُ في الوقت ذاته يتملَكني الإعجاب بريشة شاعرها العملاق ورصانته الواضحة ،وتستبدّ بي الدهشة أمام طواعية اللغة وانسيابها الملحوظ بين يديه، فلا أملك إلا أنْ أُكبر شاعريته أيّما إكبار وأنظر إلى شخصيته الساحرة بعين الثناء والتقدير .
________________________
_مواجهة «بيت التمني» المذكور!!
ألفاظ “بيت التمني” مألوفة مأنوسة موحية متآزرة في رسم ملامح الرحيل .. وهي تخلو من الصعوبة والتعقيد والغرابة.
وتركيب: (يوم تحملوا ) نجده لدى العشرات من الشعراء القدامى ..
«حومانة الدرّاج» سبقه إلى ذكرها زهير بن أبي سلمى في معلّقته المشهورة.
وقد تضاربت حول مكانها الأقوال ولعلّ أشهرها أنها في «منقطع رمل من بلاد أسد،شمال شرق بريدة».
ماذا بوسعي أن أقول إذن؟!
وأين يكمن الذهول المشار إليه؟!
أأشاطر الشاعر أمنيته وكفى؟!!لالا ..ليس قبل أن أسائله مساءلة أدبية بطبيعة الحال،وهي لن تخرج عن إطار الافتتان بقصيدته الباذخة هذه واﻹعجاب برسوخ قدمه في عالم الشعر.
وكيف يعزُب عني أنّه من المشهود لهم بالتجلِّي في مضمار الشعرالقديم كمحطة كبرى من محطّاته،حتى إنّهم نعتوه نعتاً لم يُسبق إليه حين توّجوه بقولهم :(يغرف من بحر )!
فلتكن إذن مساءلة رقيقة لاتشوبها أدنى شائبة من عَنَتٍ أو تعالٍ لاسيما وهو اﻵن غريقٌ في بحر حزنه وأساه وفي مسيس الحاجة للمواساة والرأفة والشفقة!
ولا أذيع سراً لوقلت إنني اعترتني هيبةٌ مفاجئة حين أعدتُ سهمَ السؤال إليَّ فقلت:
ماذا لوشمَّ في أسئلتي رائحةً من فضول ؟!
ماذا لو استراب من وقع أسئلتي وهي تنهال عليه؟!
لقد خشيت أن يربط بين عصره والعصر التقني الذي نحيا فيه فيلاحظ الفجوة واسعة بيننا فلايعيرني أدنى اهتمام.
وذهب بي الظن بعيداً أنّه لو جاءني ملوِّحاً بسهام الهجاء وأغراني بالخوض معه في معركة “نقائضه” ؛سيغلي الدم في عروقي ساعتئذ وقد يزلُّ بي اللسان بما لاتُحمد عقباه ؛فأتهمه مباشرةً بالتصنع والافتعال والعنجهية و تقمص أزياء الجبروت والكبرياء ،وماتلك من شيم أرباب الشعر ولاهي من سجايا أمراء الكلام.!!
وعاد إليَّ السؤال من جديدٍ :
لماذا هذه اﻷمنية بالذَّات؟
فاستقرّ بي الأمر إلى هذا التصوّر الذاتي غير النهائي بطبيعة الحال،«ويكفي من القلادة ما أحاط بالعُنق» كما قالت العرب قديماً.
وطفقت أحلل الأمنية على هذا النحو:
هي في ما أرى لن تعود عليه بنفع مباشر وإنما جرت العادة أن يلجأ الإنسان إلى اﻷمنيات_وهو دائب في تحقيقها_ حين
تدلهمّ أمامه الدروب ويفقد أمل نيل مطالبه على أرض الواقع أو تقل حيلته تماماً بسبب اصطدامه بصنوف من العقبات الكأداء المحتشدة حوله فلايدري أين يذهب بنفسه ولا يهتدي إلى كيفية الخروج من طوق أمنيته الملحّة ؟!
وحين بلغت تساؤلاتي تلك مبلغ الحدة والصَّرامة قررت أن أذهب إليه قاطعاً المسالك الصحراوية والقفار الشائكة شاحذاً أسئلتي الكثار ؛بدقة واختصار ..
وهناك طاب لي أن أستوقفه وأمطره باﻷسئلة الملتهبة:
أكنت تريد لرواحل باديتك الهلاك ياأباحزرة ؟!
يجيبني :لالا
أتريد للصبايا الفاتنات في هوادجهنّ أن يحلَّ بهن خطر ما ؟!
يجيبني :لا لا
أما كنت تطالب “خليليك” اﻷثيرين في أوائل النص بالكف عن لومك بعد أن استبدت بك اﻷحزان ،
ثم تلح عليهما في الطلب أن يستوصوا “بهنيدتك” خيراً وأن يكرماها إكراماً يليق بها ؟
نعم نعم.
أليست “هند “هي التي أذاقتك ألوانا من العذاب بصدودها وإعراضها ؛ولم تكن تعبأ بك وقد رأتك ساهراً متململاً مترقباً ساعة وصل واحدة تبل بها أوارك المتأجج في أعماقك ؟!
نعم نعم
أجبني ياجرير إلام ترمي؛ فقد طال بي على بابك سأمي؟!
أما قالوا: “المعنى في بطن الشاعر “!
نعم نعم.
لم أحظ منه سوى بإيماءة واحدة استنتجت منها أنه “قال ماقال” وسارت بشعره الركبان وأنَّ عليَّ وحدي أن أصل إلى (المعنى) الذي في قلبه إن استطعت إذ لايحسن بالشاعر أن يعاني “اﻷمرّين” !
تجربة الشعروحدها والغليان المصاحب لتلك المعاناة كافية لنا كمتلقين فلا النقد ولاالكشف المطوّل عن أسرار التجربة بمنطق النثر من شواغل الشاعر المنوطة بعمليته الإبداعية.
عليَّ اﻵن أن أنهض وأتركه مسترسلاً في عناء تجربة جديدة رأيته يهمهم بها.
وعندما هممت بمغادرة خيمته ؛لاحتْ لي صورة الفرزدق ماثلةً في القصيدة العينية نفسها، فتبين لي أنه انتقل إلى فضاء (النقائض) بعيدا عن “هنيدته” ورفيقاتها؛وماكانت تلك الأنغام العذاب التي ساقها في مطلعها إلا توطئة لإحدى معاركه الطاحنة في ميدان الهجاء.
ويستبدُّ بي العجب ثانية وثالثة؛ عمَّا يكتنف النفس الإنسانية من مفارقاتٍ ؛وتقلبات مزاجية ؛وعمّا رُكّب في أعماقها من أضداد ؛يحارب بعضها بعضا؛ وعما استسرّ في بواطنها من غرائبٍ وأسرار!!
لم يبق لي من شىء سوى تكثيف التأمل وشحذ الذهن .. حتى قدر لي أن أهتدي إلى ماوراء سطور بيته العميق.
بعد لأي وتأمل طويل وتقليب لهذا البيت العميق تبين لي مايلي :
لم يكن يريد شاعرنا في قرارة نفسه أدنى مكروه يصيب أحبته _وإن أبدى الضجر والسخط والاستياء_ وإنما ضاقتْ به اﻷرض بما رحبت إزاء هذا الوداع الممض المباغت؛وشعر أنه مطوق تطويقا شاملاً ” بمرارة الغربة”وأثقالها ؛فأطلق صرخته المدوية ممتطياً هرم اﻷمنيات “ليت ” مُحملا هيكلها الحريريّ رسالته الولهى ،فسخطه في ظاهر الأمر منصبٌّ على القافلة”الرواحل ” .
ودعاؤه عليها أن يراهنّ (ظُلَّعا ) أي يعرجن في سيرهنّ …لأنَّ في ذلك إبطاءً لها عن مواصلة السير الحثيث إلى مضارب قوم آخرين:(مصائب قوم عند …الخ)..
ولم هذا الدعاء والجزع؟!
ليتمكن _ما أسعفه الوقت _ من اللحاق بها وإنعام النظر بمرأى مليحته (هند) ومن شاركنها رحلة الفراق على ظهور تلك المطايا؛ففي ذلك قدر من السلوان سينعكس على قلبه وهو يتزود بماسيتاح له من نظرات الغرام المتطايرة ،وفي ذلك أيضا إجراء محاولة سيميط اللثام عنها حين يخلو ب(هنيدته) بمعزل عن سربها المهاجر وأنظار الرقباء لغرض إقناعها أوإقصائها عن التمادي في تنفيذ فكرة الرحيل طمعاً في الوصال وحلاوة التداني وهناءة البال
وقد سمعت _بعد المساءلة _هتافاته المدوية تتردد في سماء البادية وهو يقول :
إنِّي لأرجو منك خيراً عاجلاً
والنفسُ مولعةٌ بحب العاجل!!
وأرجو بدوري أن يكون في هذا التأمل الذاتي (بعض الخير ) لجرير وعشاق شعره وأدبه أينما كانوا.