مرتْ لحظاتُ الانكسار واليأس على قلبه، حتى كاد الظلام يُخَيِّم على روحه، فجاءت نفحاتُ الوحي كبلسمٍ شافٍ، وضوءِ فجرٍ يتبدد به سواد الليل.
سورة الضحى، بآياتها المشرقة ومعانيها العميقة، هي إحدى تلك النفحات الربانية التي تجلو صدأ القلوب وتُسكن اضطراب النفوس. إنها قصة عزاء وسلوى، وبشارة ويقين، نزلت على قلب النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في فترة فتور الوحي، لتُذَكِّره بعطاء ربه الذي لا ينقطع، ولتبثَّ في روحه الأمل والثبات.
تبدأ السورة بقسمين جليلين:
“وَالضُّحَىٰ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ”.
هنا، تتجلى الصورة البلاغية في أبهى صورها، حيث يقسم الحق تبارك وتعالى بالضحى، ذلك الوقت الذي ينتشر فيه النور ويبدأ النهار في التفتح، وبالليل إذا سكن وهدأ. هذا التقابل بين النور والظلمة ليس مجرد وصف لظاهرتين طبيعيتين، بل يحمل في طياته رمزية عميقة؛ فالضحى يمثل الأمل والفرج والانشراح، بينما يرمز الليل إلى الضيق والسكينة التي تسبق بزوغ الفجر. وكأن الآيات تقول: كما أن الليل يعقبه نهار، فإن الضيق يعقبه فرج، والعسر يتبعه يسر.
ثم يأتي الجواب المطمئن لهذا القسم:
“مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ”،
بكلماتٍ تسكب في القلب برد اليقين! هذه الآية تحمل رسالة مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى كل مؤمن من بعده، بأن الله تعالى لم يتركه ولم يبغضه. وفي ذلك طمأنينة مطلقة لمن تعلق قلبه بالله؛ فمهما تأخر العطاء أو اشتدت المحن، فذلك لا يدل على إعراضٍ أو بغضٍ، بل لحكمةٍ يعلمها الله وحده.
وتستمر السورة في بثّ روح الأمل والتفاؤل:
“وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ”.
هنا تتجلى صورة أخرى من صور العطاء الإلهي، حيث يُبشّر الله نبيه بالخير الأوفى والأبقى في الآخرة، ويعده بعطاء جزيل حتى يبلغ الرضا. هذه الآية ليست وعدًا خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي عزاءٌ لكل مؤمنٍ صدّق بالله وعمل صالحًا، بأن ما ينتظره في الدار الآخرة أعظم وأبقى مما فاته في الدنيا.
ثم تنتقل السورة إلى تذكير النبي – صلى الله عليه وسلم- بمنن الله السابقة، وكيف رعاه في مختلف مراحل حياته:
“أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ”.
هذه الآيات تُصوّر رحمة الله الشاملة ولطفه الخفي. فاليُتم، وهو فقد السند والعون، قابله الله بالإيواء والرعاية. والضلال – بمعنى عدم معرفة تفاصيل الهداية – تبعته هداية الله ونوره الحق. والعيلة، أي الفقر والحاجة، أعقبها غنى الله وكرمه. في هذا التذكير، ترتسم صورة مؤثرة لقدرة الله تعالى على تحويل الضعف إلى قوة، والضياع إلى هدى، والعوز إلى غنى.
وفي ختام هذه الرحلة المباركة، تأتي التوجيهات الربانية التي تنبثق من هذه المعاني العظيمة:
“فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ”.
هذه الوصايا الثلاث تلخص جوهر الرسالة المطمئنة في السورة. فبعد أن ذكّر الله نبيه بفضله عليه ورعايته له في ضعفه، يوجهه إلى أن يكون لينًا رحيمًا بالضعفاء والمحتاجين، وأن يُظهر نعمة الله عليه بالقول والعمل. ففي هذه التوجيهات يتجسد التطبيق العملي للمعاني التي حملتها الآيات السابقة، حيث يتحول الاطمئنان إلى فعل، والشكر إلى سلوك.
إن سورة الضحى ليست مجرد آياتٍ تُتلى، بل هي نورٌ يُضيء دروبنا في لحظات العتمة، وبلسمٌ يشفي جراحنا في أوقات الشدة. إنها تذكرنا بأن العطاء الإلهي لا ينقطع، وأن الفرج قريب، مهما طال الانتظار. وفي ثنايا كلماتها نجد رسائل مطمئنة تبعث في أرواحنا السكينة واليقين، وتذكرنا بأن بعد كل ليلٍ دامس فجرًا مشرقًا، وأن رحمة الله أوسع من كل ضيق.
فلنتدبّر هذه الآيات، ولنجعلها نبراسًا لحياتنا، وبوصلةً توجه خطواتنا نحو الرضا، والأمل، والثقة بوعد الله الحق.